وبعد أن تمّ خلق الإنسان من الجسم والروح المناسبين (فَسَجَدَ الْمَلِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ).
ولم يعص هذا الأمر إلّا إبليس : (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ).
وهنا سأل الله إبليس : (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ).
فأجاب إبليس بعد أن كان غارقاً في بحر الغرور المظلم ، وتائهاً في حبّ النفس المقتم ، وبعد أن غطّى حجاب الخسران عقله ... أجاب بوقاحة : (قَالَ لَمْ أَكُن لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ).
ونتيجة للغرور وحبّ النفس ، فقد جهل أسرار الخليقة ، وكنتيجة طبيعية لهذا السلوك المنحرف فقد هوى من ذلك المقام المرموق بعد أن أصبح غير لائق لأن يكون في درجة الملائكة وبين صفوفهم ، فجاء الأمر الإلهي مقرعاً : (قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ). أي : اخرج من الجنة ، أو من السماوات أو اخرج من بين صفوف الملائكة.
واعلم يا إبليس بأنّ غرورك أصبح سبباً لكفرك ، وكفرك قد أوجب طردك الأبدي (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدّينِ). أي : إلى يوم القيامة.
وهنا ... حينما وجد إبليس نفسه مطروداً من الساحة الإلهية ، ساوره إحساس بأنّ خلق الإنسان هو سبب شقائه فاشتعلت نار الحقد والضغينة في قلبه لينتقم لنفسه من أولاد آدم عليهالسلام.
فبالرغم من أنّ السبب الحقيقي يرجع إلى إبليس نفسه وليس لآدم دخل في ذلك ، إلّاأنّ غروره وحبّه لنفسه وعناده المستحكم لم يعطياه الفرصة لدرك حقيقة شقاءه ، ولهذا (قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ، ليركّز عناده وعداءه!
وقبل الله تعالى طلبه : (قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ).
ولكن ليس إلى يوم يبعثون كما أراد ، بل (إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ). وهو : نهاية هذا العالم وانتهاء التكليف ، لأنّ بعد ذلك (كما يفهم من ظاهر الآيات القرآنية) تحلّ نهاية حياة جميع الكائنات ، ولا يبقى حيّ إلّاالذات الإلهية المقدسة ، ومن هذا نفهم حصول الموافقة على بعض طلب إبليس.
وهنا أظهر إبليس نيّته الباطنية : (قَالَ رَبّ بِمَا أَغْوَيْتَنِى). وكان هذا الإنسان سبباً لشقائي (لَأُزَيّنَنَّ لَهُمْ فِى الْأَرْضِ) نعمها المادية (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) بإلهائهم بتلك النعم.