ثُمَّ إِلَى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ).
إذا لاحظنا أنّ معنى «يتوفّاكم» من مادة «توفّي» (على وزن تصدّي) ، هو الإستيفاء ، فإنّ الموت سوف لا يعني الفناء ، بل نوع من قبض الملائكة لروح الإنسان التي تشكّل أهم من وجود الإنسان.
إنّ الآيتين أعلاه تجيبان منكري المعاد بهذا الجواب : إذا كان إشكالكم في تفرق الأجزاء الجسمية ، فإنّكم تقرّون بقدرة الله سبحانه ولا تنكرونها ، وإذا كان إشكالكم في اضمحلال وفناء شخصية الإنسان على أثر تناثر تلك الذرات ، فلا يصحّ ذلك لأنّ أساس شخصية الإنسان يستند إلى الروح.
ثم تجسّد وضع هؤلاء المجرمين الكافرين ومنكري المعاد الذين يندمون في القيامة أشدّ الندم على ما كان منهم لدى مشاهدة مشاهدها ومواقفها المختلفة ، فتقول : (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ).
ستعجب حقّاً! أهؤلاء النادمون الناكسو الرؤوس هم اولئك المتكبرون العتاة العصاة الذين لم يكونوا يذعنون في الدنيا لأيّة حقيقة؟
«الناكس» : من مادة «نكس» على وزن (كلب) بمعنى إنقلاب الشيء ، وهنا يعني خفض الرأس إلى الأسفل وطأطأته.
تقديم «أبصرنا» على «سمعنا» لأنّ الإنسان يرى المشاهد والمواقف أوّلاً ، ثم يسمع إستجواب الله والملائكة.
إنّ المراد من «المجرمين» هنا الكافرون ، وخاصة منكري القيامة.
ولما كان كل هذا الإصرار والتأكيد على قبول الإيمان قد يوهم عجز الله سبحانه عن أن يلقي نور الإيمان في قلوب هؤلاء ، فإنّ الآية التالية تضيف : (وَلَوْ شِئْنَا لَأَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَيهَا).
فمن المسلم أنّ الله تعالى يمتلك مثل هذه القدرة ، إلّاأنّ الإيمان الذي يتحقق ويتم بالإجبار لا قيمة له ، ولذا فالمشيئة الإلهية أرادت أن ينال الإنسان شرف كونه مختاراً ، وأن يسير في طريق التكامل بحريته واختياره ، ولذلك تضيف في النهاية : لقد قرّرت أن أخلق الإنسان مختاراً (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنّى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).
أجل ... إنّ المجرمين سلكوا هذا الطريق بسوء اختيارهم ، ولذلك فهم مستحقون للعقاب ،