فهؤلاء المؤمنون يشفقون من ربهم خشية وتقوى ، وهم يؤمنون بآياته ، ولا يشركون به ، وهم ينهضون بواجباتهم وتكاليفهم ، وهم يأتون من الطاعات ما استطاعوا ، ولكنهم بعد هذا كله «يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ» لاحساسهم بالتقصير في جانب الله ، بعد أن بذلوا ما في طوقهم ، وهو في نظرهم قليل.
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت : يا رسول الله ، «الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ» هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر ، وهو يخاف الله عزوجل؟ قال : لا يا بنت الصديق ، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق ، وهو يخاف الله عزوجل».
ان قلب المؤمن يستشعر فضل الله عليه ، ويحس آلاءه في كل نفس وكل نبضة ، ومن ثم يستصغر كل عباداته ، ويستقل كل طاعاته ، الى جانب آلاء الله ونعمائه. كذلك هو يستشعر بكل ذرة فيه جلال الله وعظمته ، ويرقب بكل مشاعره يد الله في كل شيء من حوله ، ومن ثم يشعر بالهيبة ، ويشعر بالوجل يشفق أن يلقى الله وهو مقصر في حقه ، لم يوفه حقه عبادة وطاعة ، ولم يقارب أياديه عليه معرفة وشكرا.
وهؤلاء هم الذين يسارعون في الخيرات ، وهم الذين يسبقون لها فينالونها في الطليعة ، بهذه اليقظة ، وبهذا التطلع ، وبهذا العمل ، وبهذه الطاعة ، لا أولئك الذين يعيشون في غمرة ، ويحسبون لغفلتهم أنهم مقصودون بالنعمة ، مرادون بالخير ، كالصيد الغافل يستدرج الى مصرعه بالطعم المغري. ومثل هذا الطير في الناس كثير ، يغمرهم الرخاء ، وتشغلهم النعمة ، ويطغيهم الغنى ، ويلهيهم الغرور ، حتى يلاقوا المصير».
واذا كان أهل التفسير المعروف المألوف يسيرون في تبيان «الاشفاق» على ما رأينا من صور ، فان أهل التصوف يسلكون طريقهم الخاص بهم في تصوير هذه الصفة ، فيقول القشيري مثلا : «أمارة الاشفاق من