من عقائد الدين وأما المؤرخ ، ومريد الاطلاع ، فله أن يحصل من الظن ما ترجحه عنده ثقته بالراوي أو المؤرخ ، أو صاحب الرأي. وما يذكره المؤرخون والمفسرون في هذه المسألة لا يخرج عن حد الثقة بالرواية ، أو عدم الثقة بها ، ولا يتخذ دليلا قطعيا على معتقد ديني. أما مسألة عموم الطوفان في نفسها ، فهي موضوع نزاع بين أهل الأديان ، وأهل النظر في طبقات الأرض. وموضوع خلاف بين مؤرخي الأمم : فأهل الكتاب ، وعلماء الأمة الإسلامية على أن الطوفان كان عامّا لكل الأرض ، ووافقهم على ذلك كثير من أهل النظر ، واحتجوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف والأسماك المتحجرة في أعالي الجبال ، لأن هذه الأشياء مما لا يتكوّن إلا في البحر ، فظهورها في رؤوس الجبال دليل على أن الماء صعد إليها مرة من المرات ، ولن يكون ذلك حتى يكون قد عمّ الأرض. ويزعم غالب أهل النظر من المتأخرين أن الطوفان لم يكن عامّا ، ولهم على ذلك شواهد يطول شرحها. غير أنه لا يجوز لشخص مسلم أن ينكر قضية أن الطوفان كان عامّا ، لمجرد حكايات عن أهل الصين ، أو لمجرد احتمال التأويل في آيات الكتاب العزيز. بل على كل من يعتقد بالدين ، ألا ينفي شيئا مما يدل عليه ظاهر الآيات والأحاديث التي صح سندها ، وينصرف عنها إلى التأويل ، إلا بدليل عقلي يقطع بأن الظاهر غير مراد ، والوصول إلى ذلك في مثل هذه المسألة يحتاج إلى بحث طويل وعناء شديد ، وعلم غزير في طبقات الأرض ، وما تحتوي عليه ، وذلك يتوقف على علوم شتى ، نقلية وعقلية. ومن هدى برأيه بدون علم يقيني ، فهو مجازف ، ولا يسمع له قول ، ولا يسمح له ببث جهالاته ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
واستظهر بعضهم أن الطوفان كان عاما ، إذ لم يكن العمران قائما إلا بقوم نوح ، فكان عامّا لهم ، وإن كان من جهة خاصا بهم ، إذ ليس ثمّ غيرهم ، قال :
هبط آدم إلى الأرض ، وهو ليس بأمة إذا مضت عليها قرون ولدت أمما ، بل هو واحد تمضي عليه السنون ، بل القرون ، ونموّ عشيرته لا يكاد يكون إلا كما يتقلص الظل قليلا قليلا من آدم إلى نوح ثمانية آباء ، فإن كان ثمانية آباء يعطون من الذرية أضعافا وآلافا ، حتى يطئوا وجه الأرض بالأقدام ، وينشروا العمران في تلك الأيام ، فتلك قضية من أعظم ما يذكره التاريخ أعجوبة للعالمين؟ أما تلك الجبال التي وجدت فوقها عظام الأسماك ، فإن كانت مما وصل إليه الطوفان ، من المكان الخاص الذي سبق به البيان ، فلا برهان. وإن كانت في غير ذلك المكان ، فإن لم يكن وضعها إنسان ، كما وجدها إنسان ، كان نقل الجوارح والكواسر لتلك العظام ، إلى