ولكنهم قوم آثروا الضلال على الهدى ، زاغوا عنه فأزاغ الله قلوبهم. فطوى ما دل عليه هذه الجملة ، إيجازا للعلم بها.
قال أبو السعود : (قُلْ : إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) إضلاله مشيئة تابعة للحكمة الداعية إليها ، أي يخلق فيه الضلال لصرفه اختياره إلى تحصيله ، ويدعه منهمكا فيه ، لعلمه بأنه لا ينجع فيه اللطف ولا ينفعه الإرشاد كمن كان على صفتكم في المكابرة ، والعناد ، والغلوّ في الفساد. فلا سبيل له إلى الاهتداء ، ولو جاءته كل آية. ثم قال : (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) أي : أقبل إلى الحق وتأمل في تضاعيف ما نزل من دلائله الواضحة. وحقيقة الإنابة الدخول في نوبة الخير. وإيثار إيرادها في الصلة على إيراد المشيئة ، كما في الصلة الأولى ، للتنبيه على الداعي إلى الهداية بل إلى مشيئتها ، والإشعار بما دعا إلى المشيئة الأولى المكابرة. وفيه حث للكفرة على الإقلاع عما هم عليه من العتو والعناد. وإيثار صيغة الماضي للإيماء إلى استدعاء الهداية لسابقة الإنابة ، كما أن إيثار صيغة المضارع في الصلة الأولى للدلالة على استمرار المشيئة حسب استمرار مكابرتهم ، انتهى.
وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :
(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (٢٨)
(الَّذِينَ آمَنُوا) بدل من (مَنْ أَنابَ) أي : آمنوا بالله ورسوله وكتابه (وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) أي تسكن وتخشى عند ذكره ، وترضى به مولى ونصيرا. والعدول إلى صيغة المضارع لإفادة دوام الاطمئنان واستمراره (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) أي : بذكره دون غيره تسكن القلوب أنسا به ، واعتمادا عليه ، ورجاء منه ؛ وقدر بعضهم مضافا. أي بذكر رحمته ومغفرته ، أو بذكر دلائله الدالة على وحدانيته ؛ ورأى آخرون أن المراد (بِذِكْرِ اللهِ) القرآن ، لأنه يسمى ذكرا ، كما قال تعالى : (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) [الأنبياء : ٥٠] ، وقال سبحانه : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩] ، لأنه آية بينة تسكن القلوب وتثبت اليقين فيها. وهذا المعنى يناسب قوله : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) [يونس : ٢٠] ، أي : هؤلاء ينكرون كونه آية. والمؤمنون يعلمون أنه أعظم آية تطمئن لها قلوبهم ببرد اليقين : قال الشهاب : وهو أنسب الوجوه.