القول في تأويل قوله تعالى :
(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) (٦٢)
(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ) أي بكفرهم ومعاصيهم التي منها ما عدد من المساوئ المتقدمة (ما تَرَكَ عَلَيْها) أي على الأرض المدلول عليها بالناس ، وبقوله تعالى : (مِنْ دَابَّةٍ) أي لأهلكها بالمرة بشؤم ظلم الظالمين (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي وقت معين تقتضيه الحكمة. يستغفر منهم من يستغفر فيغفر له ، ويصرّ من يصرّ فيزداد عذابا (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) أي المسمي (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ) أي ينسبون إليه (ما يَكْرَهُونَ) أي من البنات ومن الشركاء. وهم يأنفون من الأولى كما يكرهون مشاركة أحد لهم في مالهم. وهو تكرير لما سبق ، تثنية للتقريع وتوطئة لقوله تعالى :
(وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) أي يجعلون لله ذلك ، مع دعواهم أن لهم العاقبة الحسنى عند الله ، إن كان ثم معاد. كما قصه تعالى عنهم بقوله (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) [فصلت : ٥٠] ، يعني جمع هؤلاء بين عمل السوء وتمنّي المحال ، بأن يجازوا على ذلك حسنا.
وقد روي أنه وجد في أحد أحجار الكعبة ، لما جدّدت ، مكتوبا (تعملون السّيّئات وتجزون الحسنات. أجل. كما يجتنى من الشوك العنب) و (أَنَّ لَهُمُ) إلخ بدل من (الكذب) أو بتقدير بأن لهم.
قال الشهاب : قوله تعالى : قوله (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) من بليغ الكلام وبديعه كقولهم : (عينها تصف السحر) أي ساحرة. وقدها يصف الهيف ، أي هيفاء.
قال أبو العلاء المعرّى :
سرى برق المعرّة بعد وهن |
|
فبات برامة يصف الكلالا |
ثم ردّ كلامهم وأثبت ضده بقوله سبحانه (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) أي معجّلون إليها ومقدّمون. من (الفرط) وهو السابق إلى الورد. يقال : أفرطته في طلب الماء إذا قدمته. أو متروكون منسيّون في النار. من (أفرطته) بمعنى تركته