القول في تأويل قوله تعالى :
(حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢٠)
(حَتَّى إِذا ما جاؤُها) أي فبالغوا في إنكار المخالفة (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ) أي بأنهم سمعوا الحجج فأعرضوا عنها ، وسمعوا الشبه فاتبعوها ، وسمعوا الفواحش فاستحسنوها (وَأَبْصارُهُمْ) أي بأنهم رأوا الآيات فلم يعتبروها ، ورأوا القبائح فاختاروها (وَجُلُودُهُمْ) أي بأنهم باشروا المعاصي ، فوصل أثرها إلى القوة اللامسة منهم ، فيشهد كل عضو وجزء (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).
القول في تأويل قوله تعالى :
(وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢١)
(وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ) أي المدركة ألم العذاب الذي لا يدركه السمع والبصر (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) أي بما يوجب إيلامكم (قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ) أي بهذه الشهادة (الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) أي أنطق كل شيء من الحيوان. فهو من العامّ الذي خصه العقل ، كقوله تعالى (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة : ٢٨٤] ، أي كل شيء من المقدورات. هذا ، على أن النطق علي ظاهره وحقيقته. وقيل المراد ظهور علامات على الأعضاء دالة على ما كانت متلبسة به في الدنيا ، بتغير أشكالها ونحوه. مما يلهم الله من رآه أنه صدر عنه ذلك ، لارتفاع الغطاء في الآخرة. فالنطق مجاز عن الدلالة. قال القاشانيّ : معنى (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ) أي غيرت صور أعضائهم ، وصورت أشكالها على هيئة الأعمال التي ارتكبوها ، وبدلت جلودهم وأبشارهم فتنطق بلسان الحال ، وتدل بالأشكال على ما كانوا يعملون. ولنطقها بهذا اللسان قالت (أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) إذ لا يخلو شيء ما من النطق. ولكن الغافلين لا يفهمون. انتهى. لكن قال الرازيّ : تفسير هذه الشهادة ، بظهور أمارات مخصوصة على هذه الأعضاء ، دالة على صدور تلك الأعمال منهم ، عدول عن الحقيقة إلى المجاز. والأصل عدمه.
ثم قال : وهذه الآية يحسن التمسك بها في بيان أن البينة ليست شرطا للحياة ، ولا لشيء من الصفات المشروطة بالحياة. فالله تعالى قادر على خلق العقل والقدرة والنطق في كل جزء من أجزاء هذه الأعضاء. والله أعلم.