تنبيه :
قال الرازيّ : نقل عن ابن عباس أنه قال : المراد من شهادة الجلود شهادة الفروج ، وإنه من باب الكنايات كما قال (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) [البقرة : ٢٣٥] وأراد النكاح. وقال : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) [النساء : ٤٣] و [المائدة : ٦] ، والمراد قضاء الحاجة. فتكون الآية وعيدا شديدا في الزنى. انتهى.
وقد أشار الإمام ابن الأثير في (المثل السائر) إلى ترجيح هذا المعنى. حيث ذكر هذه الآية في الترجيح الذي يقع بين معنيين ، يدل عليهما لفظ واحد ، يكون حقيقة في أحدهما ، مجازا في الآخر ، وعبارته : الجلود هاهنا تفسّر حقيقة ومجازا. أما الحقيقة فيراد بها الجلود مطلقا ، وأما المجاز فيراد بها الفروج خاصة ، وهذا هو المانع البلاغيّ الذي يرجح جانب المجاز على الحقيقة ، لما فيه من لطف الكناية عن المكنى عنه. وقد يسأل هاهنا في الترجيح بين الحقيقة والمجاز ، عن غير الجانب البلاغيّ. ويقال : ما بيان هذا الترجيح؟ فيقال : طريقة لفظ الجلود عامّ ، ، فلا يخلو إما أن يراد به الجلود مطلقا أو يراد به الجوارح التي هي أدوات الأعمال خاصة. ولا يجوز أن يراد به الجلود على الإطلاق ، لأن شهادة غير الجوارح التي هي الفاعلة ، شهادة باطلة. إذ هي شهادة غير شاهد. والشهادة هنا يراد بها الإقرار. فتقول اليد : أنا فعلت كذا وكذا. وتقول الرّجل : أنا مشيت إلى كذا وكذا. وكذلك الجوارح الباقية تنطق مقرّة بأعمالها. فترجح بهذا أن يكون المراد به شهادة الجوارح. وإذا أريد به الجوارح ، فلا يخلو إما أن يراد به الكل أو البعض. فإن أريد به الكل ، دخل تحته السمع والبصر. ولم يكن لتخصيصهما بالذكر فائدة. وإن أريد به البعض ، فهو بالفرج أخص منه بغيره من الجوارح ، لأمرين : أحدهما ـ أن الجوارح كلها قد ذكرت في القرآن الكريم شاهدة على صاحبها بالمعصية ما عدا الفرج. فكان حمل الجلد عليه أولى ، ليستكمل ذكر الجميع. الآخر ـ إنه ليس في الجوارح ما يكره التصريح بذكره إلا الفرج. فكني عنه بالجلد ، لأنه موضع يكره التصريح فيه بالمسمى على حقيقته.
فإن قيل : إن تخصيص السمع والبصر بالذكر ، من باب التفصيل ، كقوله تعالى : (فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) [الرحمن : ٦٨]. والنخل والرمان من الفاكهة. قلت في الجواب : هذا القول عليك لا لك. لأن النخل والرمان إنما ذكرا لتفضيل لهما في الشكل أو في الطعم ، والفضيلة هاهنا في ذكر الشهادة ، إنما هي تعظيم لأمر المعصية.