بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
القول في تأويل قوله تعالى :
(الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٦)
(الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) اتفق المؤرخون من المسلمين وأهل الكتاب على أن ملك فارس كان غزا بلاد الشام وفتح دمشق وبيت المقدس ، الأولى سنة ٦١٣ ، والثانية سنة ٦١٤. أي قبل الهجرة النبوية بسبع سنين ـ فحدث أن بلغ الخبر مكة. ففرح المشركون وشمتوا بالمسلمين ، وقالوا : أنتم والنصارى أهل كتاب. ونحن وفارس وثنيون. وقد ظهر إخواننا على إخوانكم. ولنظهرنّ عليكم. فنزلت الآية ، فتليت على المشركين. فأحال وقوع ذلك بعضهم. وتراهن مع الصديق رضي الله عنه على مائة قلوص ، إن وقع مصداقها. فلم يمض من البضع ـ وهو ما بين الثلاث إلى التسع ـ سبع سنين إلا وقد نظم هرقل جنود الروم وغزا بهم بلاد فارس سنة ٦٢١. أي قبل الهجرة بسنة. فدوّخها ، واضطر ملكها للهرب. وعاد هرقل بالغنائم الوافرة. ولا ريب أن ذلك أعظم معجزات القرآن. أعني إخباره عن غيب وقع مصداقه ، واستبان للجاحدين من نوره إشراقه. وفي ضمنه ، أن سائر غيوبه كذلك من ظهور الإسلام على الدين كله ، وزهوق الباطل ، وعلوّ الحق ، وجعل المستضعفين أئمة ، وإيراثهم أرض عدوّهم ، إلى غير ذلك. وما ألطف ما قال الزبير الكلائيّ : رأيت غلبة فارس الروم. ثم رأيت غلبة الروم فارس. ثم رأيت غلبة المسلمين فارس والروم. كل ذلك في خمس عشرة سنة ـ من أواخر غلبة فارس إلى أوائل غلبة المسلمين ـ والأرض (كما قال الزمخشريّ) أرض العرب. لأن الأرض المعهودة عند العرب أرضهم. والمعنى : غلبوا في أدنى أرض العرب أي أقربها منهم ، وهي أطراف الشام (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل غلبة فارس