على الروم (وَمِنْ بَعْدُ) أي من بعد غلبة الروم على فارس. ويقال : لله العلم والقدرة والمشيئة من قبل إبداء الخلق ، ومن بعد إفناء الخلق. والمعنى : أن كلا من كونهم مغلوبين أولا ، وغالبين آخرا ، ليس إلا بأمره وقضائه ، وعلمه ومشيئته. كما قال تعالى (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران : ١٤٠] ، (وَيَوْمَئِذٍ) أي يوم إذ يغلب الروم على فارس ، ويحل ما وعده الله تعالى من غلبتهم (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) أي تغليبه من له كتاب ، على من لا كتاب له. وغيظ من شمت بهم من كفار مكة. ويقال : نصر الله هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين (يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ) أي من عباده على عدوّه (وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي القاهر الغالب على أمره ، لا يعجزه من شاء نصره (الرَّحِيمُ) أي من نصره وتغليبه من يشاء (وَعْدَ اللهِ ، لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي بحكمته تعالى ، في كونه وأفعاله المحكمة ، الجارية على وفق العدل ، لجهلهم وعدم تفكرهم.
القول في تأويل قوله تعالى :
(يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) (٨)
(يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) وهو ما يوافق شهواتهم وأهواءهم (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ) أي التي هي المطلب الأعلى (هُمْ غافِلُونَ) أي لا يخطرونها ببالهم. فهم جاهلون بها تاركون لعملها.
لطائف :
قال الزمخشريّ : قوله تعالى (يَعْلَمُونَ) بدل من قوله (لا يعلمون) وفي هذا الإبدال من النكتة ، أنه أبدله منه وجعله بحيث يقوم مقامه ويسدّ مسدّه ، ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل ، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا. وقوله (ظاهِراً) يفيد أن للدنيا ظاهرا وباطنا. فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها. وباطنها وحقيقتها أنها مجاز إلى الآخرة ، يتزود منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة. انتهى.
وناقش الكرخيّ في إبدال (يَعْلَمُونَ) قال : إن الصناعة لا تساعد عليه. لأن بدل فعل مثبت ، من فعل منفيّ لا يصح. واستظهر قول الحرفيّ ؛ أن (يَعْلَمُونَ) استئناف في المعنى.