وأيضا : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) بدعوى المعرفة بأن توقعهم في درك الحيرة والفناء في عظمتك ، و (وَإِنْ تَغْفِرْ) بأن تدخلهم في مقام الالتباس حتى لا يدركوك بنعوت الوحدانية ، وبقوا في حجاب حظوظهم عنك بك.
قال الوراق : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) بتقصيرهم في طاعتك ، فإنهم عبادك مقرّين لك بالتقصير ، (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) ذنوبهم فأنت أهل العزّة والكرم ، فلم يبدلها إلا لمن خلقه لها ومن هو حق بها وأهلها.
قال بعضهم : ترك عيسى عليهالسلام الانبساط في السؤال للأمة ، وترك المحاكمة مع الحق في أفعاله ونبينا ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ لا يزال يشفع ويقول : أمتي ... أمتي!! حتى يجاب في الكل من أمته ، وهذا هو المقام المحمود الذي خصّ به ، ويغبطه عليه الأولون والآخرون ، حيث يراجع الحق منبسطا ويجاب بقوله : «قل تسمع واشفع تشفّع» (١).
(قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠))
قوله تعالى : (قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) وقع صدقهم على رؤية فناء الحدث في القدم ، حيث ما أدركوا الحق إلا بالعجز عن إدراكه ، فلمّا لم يدركوه قبل العجز وبعد العجز إلا به أقروا بالجهل عن معرفته ، وهذا من كمال معرفتهم بربهم ، وهذا هو الصدق الذي ذكره الله لهم فلا جرم ينفعهم ، هذا العجز عند بروز طوارق مشاهدة عظمته وكشوف سطوات عزته بأن يدركهم في محل فنائهم ، ويلبسهم صفة بقائه حتى بقوا مع الحق أبدا بلا حجاب ولا عتاب.
قال الحسين في هذه الآية : إذا قابل ربه بصدقه ، وجهل أمر ربه ، وطالب ربه بحظه ووعده ، يطالبه ربه يصدق صدقه ، فأفلسه عن رتبته ، وأبعده عمّا قصده ، وينفع صدقه من لقيه بالإفلاس ، وأيقن أنه كان مستعملا تحت حكمه وقضيته.
قوله تعالى : (لَهُمْ جَنَّاتٌ) أي : جنات المشاهدات الذاتية التي تجري تحتها عيون الصفات بنعت تجليها لهم لحظة فلحظة ، (خالِدِينَ فِيها) باقين بالاتصاف بها ، (أَبَداً) بلا
__________________
(١) رواه النسائي في الكبرى (٦ / ٤٤٠).