إليك فلا» (١).
وقال الأستاذ في قوله : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً) يعني : أحاط جوف الطلب ، ولم يخيل له صباح الوجود ، فطلع له نجم العقول ، فشاهد الحق بسرّه بنور البرهان ، فقال : (هذا رَبِّي) ، ثم زيد في ضيائه ، فطلع له قمر العلم ، فطالعه بشرط البيان ، فقال : (هذا رَبِّي) ، ثم أسفر الصبح ، وطلع النهار ، فطلعت شموس العرفان عن برج شرقها ، فلم يبق للطلب مكان ، ولا للتجويز حكم ، ولا للتهمة قرار ؛ فقال : (يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨)) ؛ إذ ليس بعد الغيب ريب ، ولا عقب الظهور سرّ.
(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢))
قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) أي : الذين شاهدوا الله بوصف المعرفة والتوحيد لا برسم الاستدلال بالأكوان والحدثان ، ولم يتجاوزوا في مقام المشاهدة عن مقام العبودية إلى مقام الأنائية من مباشرة أحكام الربوبية وحسن تجليها ، فإن العارف إذا بقي عند المشاهدة في مقام العبودية فنعته صحو وتمكين ، وهو في غاية المعرفة ، وهو مقام النبي صلىاللهعليهوسلم عند قوله : «أنا العبد لا إله إلا الله» (٢) ، فإذا تجاوز منه بذوق إدراك نور الربوبية إلى الأنائية ؛ فنعته السكر والتلوين ، وهو في مقام الاضطراب غير بالغ في المعرفة ، كمن ادّعى الأنائية بقوله : أنا الحق وسبحاني ، فإن دعوى الأنائية هاهنا ظلم ، والظلم وضع الشيء في غير موضعه ، فمن بقي بوصف العبودية في المشاهدة وقاه الله بوقاية التوحيد ، والمعرفة الخاصة أن يسلبه غمرات السكر التي توقع السكران إلى هتك الأسرار ودعوى الأنائية.
وهذا معنى قوله : (أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) به إليه.
وأيضا : إشارة الآية إلى من لا يرجع في مشاهدة الله إلى الحدثان ، كمّا وصف نبيه عليهالسلام بمقام الدنو والتمكين في دنو الدنو بنعت الاستقامة في مشهد القرب ؛ حيث ما زاغ سره إلى غيره بقوله : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) ؛ لأن من التفت منه إلى غيره ، وإن كان الجنة فقد أشرك في حقائق التوحيد (أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) ، مقام الأمن لا يحصل لأحد مادام بوصف الحدثية ، وكيف يكون أمنا منه وهو في رقّ العبودية ، ويعرف نفسه بها ، ويعرف الحق بوصف القدم والبقاء وقهر الجبروت.
__________________
(١) تقدم تخريجه.
(٢) تقدم تخريجه.