ثم بين ـ سبحانه ـ حال الصالحين من الجن ، عند ما استمعوا إلى النبي صلىاللهعليهوسلم وهو يقرأ القرآن ، ويتقرب إلى الله ـ تعالى ـ بالعبادة فقال : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً).
أى : وأوحى الله ـ تعالى ـ فيما أوحى من شأن الجن ، (أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) وهو محمد صلىاللهعليهوسلم (يَدْعُوهُ) أى : يدعو الله ـ تعالى ـ ويعبده في الصلاة ، (كادُوا) أى : الجن (يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) أى : كادوا من شدة التزاحم عليه ، والتكتل حوله .. يكونون كاللبد ، أى : كالشىء الذي تلبد بعضه فوق بعض. ولفظ «لبدا» جمع لبدة ، وهي الجماعة المتزاحمة ، ومنه لبدة الأسد للشعر المتراكم في رقبته.
ووضع ـ سبحانه ـ الاسم الظاهر موضع المضمر ، إذ مقتضى الظاهر أن يقال : وأنه لما قمت تدعو الله .. أو لما قمت أدعو الله ... تكريما للنبي صلىاللهعليهوسلم حيث وصفه بأنه «عبد الله» لما في هذه الإضافة من التشريف والتكريم.
والجن : إنما ازدحموا حول الرسول صلىاللهعليهوسلم وهو يصلى ويقرأ القرآن ... تعجبا مما شاهدوه من صلاته ، ومن حسن قراءته ، ومن كمال اقتداء أصحابه ، قياما ، وركوعا ، وسجودا ... ومنهم من يرى أن الضمير في «كادوا» يعود لكفار قريش ، فيكون المعنى : وأنه لما قام محمد صلىاللهعليهوسلم يدعو ربه ... كادوا من تزاحمهم عليه ، يكونون كاللبد ، لا لكي ينتفعوا بما يسمعون ، ولكن لكي يطفئوا نور الله بأفواههم ، والحال أن الله ـ تعالى ـ قد رد كيدهم في نحورهم ، وأبى إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون.
قال صاحب الكشاف : «عبد الله» هو النبي صلىاللهعليهوسلم ، فإن قلت : هلا قيل : رسول الله أو النبي؟ قلت : لأن تقديره وأوحى إلى أنه لما قام عبد الله ، فلما كان واقعا في كلام رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن نفسه ، جيء به على ما يقتضيه التواضع والتذلل ، أو لأن المعنى أن عبادة عبد الله ، لله ـ تعالى ـ ليست بأمر مستبعد عن العقل ولا مستنكر ، حتى يكونوا عليه لبدا.
ومعنى «قام يدعوه» : قام يعبده. يريد : قيامه لصلاة الفجر بنخلة حين أتاه الجن ، فاستمعوا لقراءته ، وتزاحموا عليه.
وقيل معناه : لما قام رسول يعبد الله وحده ، مخالفا المشركين في عبادتهم كاد المشركون لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته ، يزدحمون عليه متراكمين ... (١).
ويبدو لنا أن عودة الضمير في «كادوا» على مؤمنى الجن أرجح ، لأن هذا هو الموافق
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٣٠.