وقوله ـ سبحانه ـ : (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) بيان لحكمة أخرى من ذكر هذا العدد ..
والفتنة بمعنى الاختبار والامتحان. تقول : فتنت الذهب بالنار ، أى : اختبرته بها ، لتعلم جودته من رداءته. وقوله : (إِلَّا فِتْنَةً) مفعول ثان لقوله (جَعَلْنا) والكلام على حذف مضاف ..
أى : وما جعلنا عدة خزنة النار تسعة عشر ، إلا ليكون هذا العدد سبب فتنة واختبار للذين كفروا ، ولقد زادهم هذا الامتحان والاختبار جحودا وضلالا ، ومن مظاهر ذلك أنهم استهزءوا بالنبي صلىاللهعليهوسلم عند ما قرأ عليهم القرآن ، فحق عليهم عذابنا ووعيدنا ..
قال الإمام الرازي : وإنما صار هذا العدد سببا لفتنة الكفار من وجهين : الأول أن الكفار كانوا يستهزئون ويقولون : لم لا يكونون عشرين ـ بدلا من تسعة عشر ـ وما المقتضى لتخصيص هذا العدد؟.
والثاني أن الكفار كانوا يقولون : هذا العدد القليل ، كيف يكون وافيا بتعذيب أكثر العالم من الجن والإنس ..؟
وأجيب عن الأول : بأن هذا السؤال لازم على كل عدد يفرض ، وأفعال الله ـ تعالى ـ لا تعلل ، فلا يقال فيها لم كان هذا العدد ، فإن ذكره لحكمة لا يعلمها إلا هو ـ سبحانه ـ.
وأجيب عن الثاني : بأنه لا يبعد أن الله ـ تعالى ـ يعطى ذلك العدد القليل قوة تفي بذلك ، فقد اقتلع جبريل وحده. مدائن قوم لوط على أحد جناحيه ، ورفعها إلى السماء .. ثم قلبها ، فجعل عاليها سافلها ..
ـ وأيضا ـ فأحوال القيامة ، لا تقاس بأحوال الدنيا ، وليس للعقل فيها مجال .. (١).
وقوله ـ سبحانه ـ : (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ، وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً ...)
علة أخرى ، لذكر هذا العدد. والاستيقان : قوة اليقين ، فالسين والتاء للمبالغة.
أى : وما جعلنا عدتهم كذلك ـ أيضا ـ إلا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى ، بأن الرسول صلىاللهعليهوسلم صادق فيما يبلغه عن ربه ، إذ أن الكتب السماوية التي بين أيديهم قد ذكرت هذا العدد. كما ذكره القرآن الكريم ، وإلا ليزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم ، بصدق نبيهم صلىاللهعليهوسلم ، إذ أن الإخبار عن المغيبات عن طريق القرآن الكريم ، من شأنها أن تجعل الإيمان في قلوب المؤمنين الصادقين ، يزداد رسوخا وثباتا.
__________________
(١) تفسير الفخر الرازي.