استمر على تكذيبه وإعراضه عن الصراط المستقيم ، ولم يكتف بكل ذلك ، بل تفاخر وتباهي أمام غيره بما هو عليه من باطل.
وقوله ـ سبحانه ـ : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى. ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) دعاء على هذا الإنسان الشقي ، المصر على إعراضه عن الحق .. بالهلاك وسوء العاقبة. و (أَوْلى) اسم تفضيل من ولى ، وفاعله ضمير محذوف يقدره كل قائل أو سامع بما يدل على المكروه.
والكاف في قوله (لَكَ) للتبيين ، والكاف خطاب لهذا الإنسان المخصوص بالدعاء عليه.
وقوله : (فَأَوْلى) تأكيد لقوله (أَوْلى لَكَ) وجملة (ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) مؤكدة للجملة الأولى. أى : أجدر بك هذا الهلاك الذي ينتظرك قريبا ـ أيها الإنسان ـ الجاحد ، ثم أجدر بك ، لأنك أصررت على كل ما هو باطل وسوء.
قال القرطبي ما ملخصه : هذا تهديد بعد تهديد ، ووعيد بعد وعيد ..
روى أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم خرج من المسجد ذات يوم ، فاستقبله أبو جهل على باب المسجد ، فأخذ رسول الله صلىاللهعليهوسلم بيده ، فهزه مرة أو مرتين ثم قال : «أولى لك فأولى». فقال أبو جهل : أتهددني ـ يا محمد ـ فو الله إنى لأعز أهل هذا الوادي وأكرمه ، ونزل على رسول الله صلىاللهعليهوسلم كما قال لأبى جهل (١).
وجيء بحرف «ثم» في عطف الجملة الثانية على الأولى ، لزيادة التأكيد ، وللارتقاء في الوعيد ، وللإشعار بأن التهديد الثاني أشد من الأول ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ).
ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بالإشارة إلى الحكمة من البعث والجزاء ، وببيان جانب من مظاهر قدرته فقال : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً).
والاستفهام للإنكار كما قال في قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ).
و «سدى» ـ بضم السين مع القصر ـ بمعنى مهمل. يقال : إبل سدّى ، أى : مهملة ليس لها راع يحميها .. وهو حال من فاعل «يترك».
أى : أيظن هذا الإنسان الذي أنكر البعث والجزاء ، أن نتركه هكذا مهملا ، فلا نجازيه
__________________
(١) تفسير القرطبي ج ١٩ ص ١١٤.