وأقسم ـ ثانيا ـ بالنهار فقال : (وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) أى : وحق النهار حين ينكشف ويظهر ، ويزيل الليل وظلمته ، ويخرج الناس معه ليباشروا أعمالهم المتنوعة.
وأقسم ـ ثالثا ـ بقوله : (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) و «ما» هنا يصح أن تكون موصولة ، بمعنى الذي ، فيكون ـ سبحانه ـ قد أقسم بذاته ، وجاء التعبير بما ، للدلالة على الوصفية ، ولقصد التفخيم.
فكأنه ـ تعالى ـ يقول : وحق الخالق العظيم ، الذي لا يعجزه شيء ، والذي خلق نوع الذكور ، ونوع الإناث من ماء واحد.
ويصح أن تكون «ما» هنا حرفا مصدريا ، فيكون المعنى : وحق خلق الذكر والأنثى ، وعليه يكون ـ سبحانه ـ قد أقسم بفعل من أفعاله التي تدل على كمال قدرته ، وبديع صنعته ، حيث أوجد الذكور والإناث من ماء واحد ، كما قال ـ سبحانه ـ : (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) وحيث وهب ـ سبحانه ـ الذكور لمن يشاء ، ووهب الإناث لمن يشاء ، وجعل العقم لمن يشاء.
وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) هو جواب القسم. وشتى جمع شتيت. مثل : جريح وجرحى ، ومريض ومرضى. والشيء الشتيت : هو المتفرق المتناثر بعضه عن بعض ، من الشتات بمعنى الابتعاد والافتراق.
والمعنى : وحق الليل إذا يغشى النهار فيستر ضياءه ، وحق النهار إذا تجلى وأسفر وأزال الليل وظلامه ، وحق الخالق العظيم القادر الذي أوجد الذكور والإناث.
وحق كل ذلك ، إن أعمالكم ومساعيكم ـ أيها الناس ـ في هذه الحياة ، لهى ألوان شتى ، وأنواع متفرقة ، منها الهدى ومنها الضلال ، ومنها الخير ، ومنها الشر ، ومنها الطاعة ، ومنها المعصية .. وسيجازى ـ سبحانه ـ كل إنسان على حسب عمله.
وحذف مفعول «يغشى» للتعميم ، أى يغشى كل شيء ويواريه بظلامه.
وأسند ـ سبحانه ـ التجلي إلى النهار ، على سبيل المدح له بالاستنارة والإسفار.
والمراد بالسعي : العمل. وقوله «سعيكم» مصدر مضاف فيفيد العموم فهو في معنى الجمع أى : إن مساعيكم لمتفرقة.
قال القرطبي : السعى : العمل ، فساع في فكاك نفسه ، وساع في عطبها ، يدل عليه قوله صلىاللهعليهوسلم : «الناس غاديان : فمبتاع نفسه فمعتقها ، وبائع نفسه فموبقها» (١).
__________________
(١) تفسير القرطبي ج ٢٠ ص ٨٢.