محاجة القرآن لليهود والنصارى معا :
هذا وإذا كانت الآيات السابقة قد ألزمت الحجة كلا من اليهود والنصارى على حدة وانفراد ، فهناك آيات جمعتهما فى خطاب واحد ، وألزمتهما الحجة والبرهان ، نسوق منها ما يلى :
أولا : قال تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) [المائدة : ١٥].
حكى الله تعالى قبل ذلك عن اليهود والنصارى نقضهم العهد ، وتركهم ما أمروا به ، ثم دعاهم بعد ذلك إلى الإيمان بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، فقال : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ ...) الآية ، فهى دعوة صريحة خاصة لهم ، وخطاب قوى موجه إليهم ، وإيرادهم بعنوان (أَهْلَ الْكِتابِ) لانطواء الكلام المصدر به على ما يتعلق بالكتاب ، وللمبالغة فى التشنيع عليهم ، فإن أهلية الكتاب من موجبات مراعاته ، والعمل بمقتضاه ، وبيان ما فيه من الأحكام ، وقد فعلوا من الكتم والتحريف ما فعلوا وهم يعلمون ، فقد أخفت اليهود آية الرجم ، كما أخفت النصارى بشارة الإنجيل بمحمد صلىاللهعليهوسلم.
وفى إعلامه صلىاللهعليهوسلم يخفى ما فى كتبهم ، وهو أمى لا يكتب ولا يصحب القرّاء ، دليل على صحة نبوته ، لو ألهمهم الله الخير ، وقوله : (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) ، يعنى مما يكتمونه ، فلا يتعرض له ولا يؤاخذهم به ؛ لأنه لا حاجة إلى إظهاره ، والفائدة فى ذلك أنهم يعلمون كون النبى صلىاللهعليهوسلم عالما بما يخفون ، وهو معجزة له أيضا ، فيكون ذلك داعيا إلى الإيمان به.
وفى قوله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) يعنى القرآن ، فإنه الكاشف لظلمات الشك والضلال ، والكتاب الواضح الإعجاز ، فالنور والكتاب المبين متحدان بالذات ، وعطف أحدهما على الآخر من قبيل عطف الصفة على الصفة ، مع اتحاد الموصوف بهما ، وهو القرآن. وقيل : يريد بالنور محمدا صلىاللهعليهوسلم ، وعلى ذلك فالعطف من قبيل عطف الذات على الذات ، وأيا ما كان ، فالمراد بهذه الجملة المستأنفة أن فائدة مجىء الرسول ليست منحصرة فيما ذكر من بيان ما كانوا يخفونه ، بل إنه جاء لهم نورا يهتدون به فى معرفة الحق ، ويسترشدون به إلى الغاية المنشودة.