ثانيا : قال تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [المائدة : ١٩].
نص هو فى غاية البيان أنه صلىاللهعليهوسلم أرسل لليهود والنصارى ، وليس معنى إرساله إليهم إلا أن يؤمنوا بما جاء به من توحيد خالص ، ويعبدوا الله على شريعته التى رسمها وبينها من صلاة وصيام ، وما إلى ذلك ، وما أروع قوله فى الآية الكريمة : (أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) ، فهو يدل على أنهم فيما هم عليه من شريعة حرّفوها ، ودين أضاعوه فى أمس الحاجة إلى بيان شاف ، وإيضاح للحق كامل ، فمعنى الآية هو الامتنان عليهم بأن الرسول بعث إليهم حين انطماس آثار الوحى ، وهم أحوج إليه لإزالة العذر ، وإلزام الحجة ، فعليهم أن يعوا ذلك نعمة من الله عليهم ، ورحمة منه بهم.
ثالثا : قال تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) [المائدة : ٦٨].
بعد أن أمرهم الله تعالى فى الآيتين السابقتين باتباع محمد صلىاللهعليهوسلم ، وبين لهم أنه صلىاللهعليهوسلم إنما جاء لهم ليصحح العقيدة ، ويرشدهم إلى السبيل السوى ، قال لهم فى هذه الآية الكريمة : أن ما هم عليه من دين باطل لا يعتد به إطلاقا ، حتى يكون ذلك حافزا لهم إلى الدخول فى دين محمد صلىاللهعليهوسلم ، فإن المرء يأنف أن يكون على عقيدة باطلة ، أو عبادة فاسدة ، ما دام سليم الطبع ، بعيدا عن التعصب والتمسك بالباطل ، فقوله تعالى : (لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) أى يعتد به حتى يسمى شيئا لفساده وبطلانه ، كما تقول : هذا ليس بشيء ، تريد تحقيره وتصغيره ، وفى أمثالهم : أقل من لا شىء.
(حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) ، أى بأن تعملوا بما فيها ، ومنها الإيمان بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، والإذعان لحكمه ، فإن الكتب الإلهية بأسرها آمرة بالإيمان بمن صدقته المعجزة الناطقة بوجوب الطاعة له ، والمراد بقوله : (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) هو القرآن الكريم ، وما أبدع قوله : (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) ، يعنى فالقرآن أنزل إليهم ولهم ، وهم مقصودون به ضمن من قصد ، ومطالبون بالعمل بأحكامه ضمن من طلب إليه ذلك من بقية المكلفين.
وأما قوله : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ...) إلى آخره ، فهو بيان لما هم عليه من كفر