قوله تعالى : (جَمِيعاً) حال من إليكم ، أى أن الكل يشترط عليهم الإيمان بى والاتباع لى ، قال بعض الفضلاء : وقد طار الخبر بشريعة محمد صلىاللهعليهوسلم إلى كل أفق وتغلغل فى كل نفق ، ولم يبق الله تعالى أهل مدر ، ولا وبر ، ولا سهل ، ولا جبل ، ولا بحر ، ولا بر ، فى مشارق الأرض ومغاربها ، إلا وقد ألقاه إليهم ، وملأ به مسامعهم ، وألزمهم به الحجة ، وهو سائلهم عنه يوم القيامة.
فهذه الآيات القرآنية الصادقة ، وتلكم البراهين التنزيلية الحقة ، تلزم اليهود والنصارى بالإيمان بما جاء به محمد صلىاللهعليهوسلم من التوحيد الذى انحرفوا عنه وضيّعوه ، ومن التعبد والخضوع لله تعالى على وفق ما رسم القرآن ، وبين من أحكام وشريعة تخالف وتغاير ما جاء فى كتبهم على ما اقتضته الحكمة الإلهية من نزول الشرائع على ما يناسب كل أمة مع رسولها.
فما قالوه عن إيمانهم بالله تعالى ، فقد تبين فساده ، حيث ثلثوا وأثبتوا له البنوّة جل جلاله ، وما قالوه عن إيمانهم باليوم الآخر ، فهو فاسد كذلك ، حيث لم يؤمنوا به على حقيقة ما أخبر الله عنه ، بل على ما فهموه زورا وبهتانا ، كما أنهم ليس لهم يقين فيما فهموه ، إذ اليقين هو العلم المتقين بالدليل ، وإنما اعتقادهم خيال فاسد ، وجهل محض ، ولذلك قال عز من قائل فى وصف المتقين فى أول سورة البقرة : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) [البقرة : ٤] ، قال المفسرون : إن قوله : (بِالْآخِرَةِ) متعلق ب (يُوقِنُونَ) فلم قدم عليه؟ وإن قوله : (هُمْ) فاعل فى المعنى ل (يُوقِنُونَ) فلم جعل مبتدأ وقدم عليه؟
ومحصول الجواب أنه عدل إلى كل واحد من المتقدمين ليفيد التقدم الأول ، وهو تقديم بالآخرة ، أن إيقانهم مقصور على ما هو حقيقة الآخرة لا يتعداها إلى ما هو خلاف حقيقتها كما يزعم اليهود ، كأنه قيل : يوقنون بالآخرة لا بغيرها ، وفيه تعريض بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالقرآن بأن ما كانوا عليه ليس من الإيمان بحقيقة الآخرة لعدم خلوص علمهم بالآخرة عن الشبهة الباطلة ، فإن اعتقادهم فى أمر الآخرة غير مطابق لحقيقة الآخرة.
وليفيد تقديم الفاعل المعنوى أن الإيقان بالآخرة مقصور على المؤمنين ، لا يتجاوزهم إلى أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالقرآن ، وفيه تعريض لهم بأن اعتقادهم