وأوصاف القديم هذه لا تنطبق على المادة بوجه ؛ لأن المادة ناقصة تتكامل دائما وأبدا ، متعددة ، ليس لها وجود من ذاتها ، تتغير وضعا ، وفعلا ، واتصافا ، إذ يتعلق الواحد فيها بالآخر ، مما يجره إليها كل من التدافع والتجاذب ، وحينئذ فلا تكون المادة قديمة ، ومعنى ذلك أن المادة حدثت من العدم.
فإن قال قائل : كيف تحدث المادة من العدم؟ قلنا : قال بعض المحققين : دعوى أن الحدوث من العدم محال ، يقال عنها : إنها محال بنفسها ، لا بفعل قادر أزلى ، وعدم إدراكنا لذلك وكونه مما يفوق طور العقل لا ينفيه ، إذا لا يلزم من جهل الأمر نفيه ، وقد اعترف الماديون بتعذر معرفة أصل المادة ، وكم من أشياء مشهورة يعسر على الإنسان إدراك حقيقتها ، وكما أنه لا يحق لمن لا يبصر أمرا أن ينكر وجوده ، فهكذا ليس لمن لم يفهم حقيقة الخلق أن ينكر وجوده ، لا سيما وهى من غيب الغيوب ، وأبطن البطون. وقال آخر : لا يخفى أن الاعتراض يرجع إلى هذا ، وهو لا شىء يصير من لا شىء.
فنقول : إن أريد به أنه لا موجود بدون موجد ، فهو صحيح إجماعا ، وأما إذا كان المراد به لا شىء ، يمكن أن يصدر من لا مادة ، ففيه تفصيل ، فبالنظر إلى الأسباب المتناهية القوى التى تشاهد فى عالم الحس ، لا خلاف فيه ؛ لأن الخليفة أيا كانت لا تقدر أن تصنع من لا شىء شيئا.
وأما بالنظر إلى الخالق جل وعلا ، فباطل ، إذ من شأن القوة غير المتناهية إلا تتقيد بشيء خارج عنها ، فيمكنها أن توجد الشيء من العدم البحت ، أى لا من مادة كيفما شاءت ، ومتى شاءت ، وإلا كانت متناهية محدودة ، وذلك محال عليها ، ولا يلزم من قدمه تعالى قدم المخلوقات ، إذ هو تعالى فاعل مطلق ، لا يضطره شىء ، (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢]. أ. ه.
هذا موقف العقلاء من بيان فساد مذهب الماديين فى إنكارهم الخالق جل وعلا ، والبعث ، ونبوّة خاتم الأنبياء. أما موقف القرآن ، فقد ألزم كل مكلف من إنس وجن ، ذكر وأنثى ، بهذه المطالب الثلاثة ، وفى أوائل سورة البقرة بيان لها ، ففي قوله سبحانه : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة : ٣] ، إيمان بالخالق وتوحيده ، وفى قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) [البقرة : ٤] ، إيمان بنبوّة محمد والأنبياء جميعا ، عليهم الصلاة والسلام ، وفى قوله جل شأنه : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) [البقرة : ٤] ، إيمان بالبعث والمعاد.