وقد خص هذا بالذكر بعد دخوله فى قوله : (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة : ٣] ، لمزيد العناية به ، ورفعة شأنه ، وقد بينت الآية بعد ذلك فى قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة : ٥] ، أن هؤلاء المؤمنين بهذه المطالب الثلاثة ، هم المتمكنون من الهدى الإلهى ، وأنهم دون غيرهم المفلحون ، الظافرون بكل محبوب ، الناجون من كل مكروه. وقد سلك القرآن الكريم فى إثبات هذه المطالب عليهم ، وإلزامهم بها ، طريق النظر والفكر ، فبه يتوصل إلى العلوم ، ويهتدى إلى الحقيقة.
قال جمال الدين الخوارزمى فيما نقله عنه العلامة القاسمى : النظر هو قانون الاستدلال فى الأمور ، وقاضى الصدق ، وبرهان الشريعة ، وترجمان الإيمان ، وحجة الأنبياء ، ومحجة الأولياء ، والسيف القاطع على الأعداء ، وهو رأس السعادة فى الدين ، فأساس التدبير ، وصحة الاعتقاد ، وخلاصة التوحيد فى ناصية النظر ، كما أن أساس الكفر والشرك فى جانب التقليد.
وما دام فى العالم حق وباطل ، ولكل منهما مشايعون ، فلا يتصور معرفة الحق من الباطل إلا بالنظر ، والإنسان خلق كامل الرأى ، عظيم الفكر ، دراكا للمعانى ، وأعطى الإدراك وهو العقل ، فإذا استعمله على وجهه ، وقع عنده العلم للمنظور فيه ، كما يقع العلم بالمدركات عند الإدراك ، فعند فتح الأجفان يبصر الأشياء ، وعند الاستماع يسمع ، وعند استعمال اللسان يتكلم ، كذلك عند النظر يعلم.
فنحن معشر المسلمين نعرف الحق من الباطل بالنظر ، ونعرف الكفر من الإيمان بالنظر ، ونعرف الله ورسوله بالنظر ، ونعرف أن التقليد بلا برهان باطل ، ولا معصوم إلا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، كل ذلك بالنظر ، وبالجملة فالناس من عهد آدم ، عليهالسلام ، إلى منقرض العالم ، إذا نزلت بهم نازلة يرجعون إلى النظر والفكر ، سواء كان فى أمر الدين أو الدنيا ، ويقول بعضهم لبعض : انظروا وتفكروا ، فلولا أنه طريق واضح ، ومنهج لائح ، لما فزعوا إليه. أ. ه. بتصرف.
ونحن نسير مع القرآن الكريم فى إثبات وبيان هذه المطالب الإيمانية الثلاثة :
المطلب الأول : وجود الصانع وتوحيده :
الآيات فى هذا المطلب كثيرة جدا ، فهى أكثر من أوراق الأشجار ، كما أنها أجلى من ضياء النهار ، وسوف نقتصر من هذه الكثرة على النذر اليسير ؛ لاقتضاء المقام ذلك ،