والكل فى أعلى درجات البلاغة والإعجاز ، وهذا ما تنقطع دونه الأعناق ، من هذه الآية :
١ ـ قوله تعالى فى سورة النحل : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) [النحل : ٤] ، تذكر هذه الآية مبدأ التطور فى خلق الإنسان ، ثم نهايته ، مع الإعراض عن المراحل والتطورات التى بينهما ، والحكمة فى ذلك أن هذه السورة جاءت لتعديد نعم الله تعالى على خلقه ، حتى سماها بعض المفسرين سورة النعم.
من أجل ذلك ذكرت الآية المبدأ الأول لتصوير الإنسان وتخليقه ، ثم طوت المراحل المترتبة على هذا المبدأ ، وأتت بالنتيجة والغاية ، وهو أنه (خَصِيمٌ مُبِينٌ) [النحل : ٤] ، إذ أن ذلك فى باب تعداد النعم ظاهر ، واضح ، ومشاهد محسوس ، ومما يدل على أن هناك وسائط وأطوارا فى الآية الكريمة ، وجود فاء التعقيب ، وإذا التى للمفاجأة ، فإن كونه خصيما لا يعقب ولا يفاجئ كونه نطفة ، والمعنى أنه قوى واشتد بتنقله فى هذه الأطوار ، حتى أعقب ذلك وفاجأه أنه خصيم مبين ، ومعنى أنه خصيم مبين ، أى شديد الخصومة بينها يفصح عما فى نفسه بالنطق والبيان.
٢ ـ قوله تعالى فى سورة الزمر : (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) [الزمر : ٦] ، تتصل هذه الجملة الكريمة بأول الآية قبلها : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) [الزمر : ٦] ، فهى بيان لكيفية خلق ما ذكر من الأناسى ، إظهارا لما فيها من عجائب القدرة.
ومعنى قوله تعالى : (خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) [الزمر : ٦] ، أى حيوانا سويا من بعد عظام مكسوة لحما ، من بعد عظام عادية ، من بعد مضغ ، من بعد علق ، من بعد نطف. وأما قوله سبحانه : (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) [الزمر : ٦] ، فقد قال أئمة التفسير إنها ظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة التى هى غلاف الولد ، وظلمة البطن.
أما أهل التشريح ، فقد قالوا ما قرب من هذا ، فقد جاء فى مجلة لواء الإسلام ، العدد الثانى ، شوال سنة (١٣٨٧ ه) (١٥) فبراير سنة (١٩٦٤ م) ، للأستاذ صلاح أبو إسماعيل ، ما نصه : ثم نرهف السمع إلى علم الأجنة لنسمعه يقرر أن الجنين فى بطن أمه يكون محاطا بثلاثة أغشية صماء ، لا ينفذ منها الماء ، ولا الضوء ، ولا الحرارة ، ونرى هذا يلقى ضوءا على قوله تعالى : (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) [الزمر : ٦]. أ. ه.