قوله : (وَلا تَحْسَبَنَ) خطاب للنبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وهو تعريض لأمته ، فكأنه قال : ولا تحسب أمتك يا محمد ، ويجوز أن يكون خطابا لكلّ من يصلح له من المكلّفين ، وإن كان الخطاب للنبي صلىاللهعليهوسلم من غير تعريض لأمته فمعناه التثبيت على ما كان عليه من عدم الحسبان كقوله : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١) ونحوه ؛ وقيل : المراد : ولا تحسبنه يعاملهم معاملة الغافل عمّا يعملون ، ولكن معاملة الرقيب عليهم ؛ أو يكون المراد بالنهي عن الحسبان الإيذان بأنه عالم بذلك لا تخفى عليه منه خافية. وفي هذا تسلية لرسول الله صلىاللهعليهوسلم وإعلام للمشركين بأن تأخير العذاب عنهم ليس للرضا بأفعالهم ، بل سنّة الله سبحانه في إمهال العصاة (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) أي : يؤخّر جزاءهم ولا يؤاخذهم بظلمهم. وهذه الجملة تعليل للنهي السابق. وقرأ الحسن والسلمي وهو رواية عن أبي عمرو بالنون في نؤخرهم. وقرأ الباقون بالتحتية. واختارها أبو عبيد وأبو حاتم لقوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ) ومعنى (لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) أي : ترفع فيه أبصار أهل الموقف ، ولا تغمض من هول ما تراه في ذلك اليوم ، هكذا قال الفراء. يقال : شخص الرجل بصره وشخص البصر نفسه إلى السماء من هول ما يرى ، والمراد أن الأبصار بقيت مفتوحة لا تتحرّك من شدّة الحيرة والدهشة (مُهْطِعِينَ) أي : مسرعين ، من أهطع يهطع إهطاعا ؛ إذا أسرع ؛ وقيل : المهطع : الذي ينظر في ذلّ وخشوع. ومنه :
بدجلة دارهم ولقد أراهم |
|
بدجلة مهطعين إلى السّماع (٢) |
وقيل : المهطع : الذي يديم النظر. قال أبو عبيدة : قد يكون الوجهان جميعا ، يعني الإسراع مع إدامة النظر ؛ وقيل : المهطع الذي لا يرفع رأسه. وقال ثعلب : المهطع الذي ينظر في ذلّ وخضوع ؛ وقيل : هو الساكت. قال النحاس : والمعروف في اللغة أهطع ؛ إذا أسرع (مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) أي : رافعي رؤوسهم ، وإقناع الرأس : رفعه ، وأقنع صوته : إذا رفعه ، والمعنى : أنهم يومئذ رافعون رؤوسهم إلى السماء ينظرون إليها نظر فزع وذلّ ولا ينظر بعضهم إلى بعض. وقيل : إن إقناع الرأس نكسه ؛ وقيل : يقال أقنع ؛ إذا رفع رأسه ، وأقنع : إذا طأطأ ذلة وخضوعا ، والآية محتملة للوجهين. قال المبرد : والقول الأوّل أعرف في اللغة. قال الشاعر :
أنغض (٣) نحوي رأسه وأقنعا |
|
كأنّما أبصر شيئا أطمعا |
(لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) أي : لا ترجع إليهم أبصارهم ، وأصل الطرف : تحريك الأجفان ؛ وسمّيت العين طرفا لأنه يكون بها ، ومن إطلاق الطرف على العين قول عنترة :
وأغضّ طرفي ما بدت لي جارتي |
|
حتى يواري جارتي مأواها |
__________________
(١). الأنعام : ١٤.
(٢). في المطبوع : السماء. والمثبت من تفسير القرطبي (٩ / ٣٧٦)
(٣). «أنغض» حرّك.