وقيل : هي هنا للتقليل ؛ لأنهم ودّوا ذلك في بعض المواضع لا في كلّها لشغلهم بالعذاب. قيل : وما هنا لحقت ربّ لتهيئها للدخول على الفعل ؛ وقيل : هي نكرة بمعنى شيء ، وإنما دخلت ربّ هنا على المستقبل مع كونها لا تدخل إلا على الماضي ، لأنّ المترقب في أخباره سبحانه كالواقع المتحقّق ، فكأنه قيل : ربما ودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين ، أي : منقادين لحكمه مذعنين له من جملة أهله. وكانت هذه الودادة منهم عند موتهم أو يوم القيامة. والمراد أنه لما انكشف لهم الأمر ، واتّضح بطلان ما كانوا عليه من الكفر ، وأن الدين عند الله سبحانه هو الإسلام لا دين غيره ، حصلت منهم هذه الودادة التي لا تسمن ولا تغني من جوع ، بل هي لمجرد التحسّر والتندّم ولوم النفس على ما فرّطت في جنب الله ؛ وقيل : كانت هذه الودادة منهم عند معاينة حالهم وحال المسلمين ؛ وقيل : عند خروج عصاة الموحّدين من النار ، والظاهر أن هذه الودادة كائنة منهم في كلّ وقت مستمرة في كلّ لحظة بعد انكشاف الأمر لهم (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) هذا تهديد لهم ، أي : دعهم عمّا أنت بصدده من الأمر لهم والنهي ، فهم لا يرعوون أبدا ، ولا يخرجون من باطل ، ولا يدخلون في حق ، بل مرهم بما هم فيه من الاشتغال بالأكل والتمتع بزهرة الدنيا ، فإنهم كالأنعام التي لا تهتم إلا بذلك ولا تشتغل بغيره ، والمعنى : اتركهم على ما هم عليه من الاشتغال بالأكل ونحوه من متاع الدنيا ، ومن إلهاء الأمل لهم عن اتباعك فسوف يعلمون عاقبة أمرهم وسوء صنيعهم. وفي هذا من التهديد والزجر ما لا يقدر قدره ، يقال : ألهاه كذا ، أي : شغله ، ولهي هو عن الشيء يلهى ، أي : شغلهم الأمل عن اتباع الحق ، وما زالوا في الآمال الفارغة والتمنيات الباطلة حتى أسفر الصبح لذي عينين ، وانكشف الأمر ، ورأوا العذاب يوم القيامة ، فعند ذلك يذوقون وبال ما صنعوا. والأفعال الثلاثة مجزومة على أنها جواب الأمر ، وهذه الآية منسوخة بآية السيف (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) أي : وما أهلكنا قرية من القرى بنوع من أنواع العذاب (إِلَّا وَلَها) أي : لتلك القرية (كِتابٌ) أي : أجل مقدّر لا تتقدم عليه ولا تتأخر عنه (مَعْلُومٌ) غير مجهول ولا منسيّ ، فلا يتصوّر التخلف عنه بوجه من الوجوه ، وجملة (لَها كِتابٌ) في محل نصب على الحال من قرية وإن كانت نكرة لأنها قد صارت بما فيها من العموم في حكم الموصوفة ، والواو للفرق بين كون هذه الجملة حالا ، أو صفة فإنها تعينها للحالية كقولك : جاءني رجل على كتفه سيف ، وقيل : إنّ الجملة صفة لقرية ، والواو لتأكيد اللصوق بين الصفة والموصوف (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) أي : ما تسبق أمة من الأمم أجلها المضروب لها المكتوب في اللوح المحفوظ ؛ والمعنى : أنه لا يأتي هلاكها قبل مجيء أجلها (وَما يَسْتَأْخِرُونَ) أي : وما يتأخرون عنه ، فيكون مجيء هلاكهم بعد مضي الأجل المضروب له ، وإيراد الفعل على صيغة جمع المذكر للحمل على المعنى مع التغليب ولرعاية الفواصل ، ولذلك حذف الجار والمجرور ، والجملة مبينة لما قبلها ، فكأنه قيل : إنّ هذا الإمهال لا ينبغي أن يغترّ به العقلاء ، فإن لكل أمة وقتا معينا في نزول العذاب لا يتقدّم ولا يتأخر. وقد تقدم تفسير الأجل في أوّل سورة الأنعام. ثم لما فرغ من تهديد الكفار شرع في بيان بعض عتوّهم في الكفر ، وتماديهم في الغيّ مع تضمنه لبيان كفرهم بمن أنزل عليه الكتاب بعد بيان كفرهم بالكتاب ، فقال : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) أي : قال كفار