و «أن» في قوله : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) إما مصدرية ، أي : بعثنا بأن اعبدوا الله ، أو مفسرة لأن في البعث معنى القول (وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) أي : اتركوا كلّ معبود دون الله كالشيطان والكاهن والصنم وكلّ من دعا إلى الضلال (فَمِنْهُمْ) أي : من هذه الأمم التي بعث الله إليها رسله (مَنْ هَدَى اللهُ) أي : أرشده إلى دينه وتوحيده وعبادته واجتناب الطاغوت (وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) أي : وجبت وثبتت لإصراره على الكفر والعناد. قال الزّجّاج : أعلم الله أنه بعث الرسل بالأمر بالعبادة ، وهو من وراء الإضلال والهداية ، ومثل هذه الآية قوله تعالى : (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) (١). وفي هذه الآية التصريح بأن الله أمر جميع عباده بعبادته ، واجتناب الشيطان وكل ما يدعو إلى الضلال ، وأنهم بعد ذلك فريقان فمنهم من هدي ومنهم من حقّت عليه الضلالة ، فكان في ذلك دليل على أن أمر الله سبحانه لا يستلزم موافقة إرادته فإنه يأمر الكل بالإيمان ، ولا يريد الهداية إلا للبعض ، إذ لو أرادها للكل لم يكفر أحد ، وهذا معنى ما حكيناه عن الزجّاج هنا (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) سير معتبرين (فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) من الأمم السابقة عند مشاهدتكم لآثارهم كعاد وثمود ، أي : كيف صار آخر أمرهم إلى خراب الديار بعد هلاك الأبدان بالعذاب ، ثم خصّص الخطاب برسوله صلىاللهعليهوسلم مؤكدا لما تقدّم ، فقال : (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ) أي : تطلب بجهدك ذلك (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) قرأ ابن مسعود وأهل الكوفة (لا يَهْدِي) بفتح حرف المضارعة على أنه فعل مستقبل مسند إلى الله سبحانه ، أي : فإن الله لا يرشد من أضله ، و (مَنْ) في موضع نصب على المفعولية. وقرأ الباقون «لا يهدى» بضم حرف المضارعة على أنه مبني للمجهول (٢) ، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم على معنى أنه لا يهديه هاد كائنا من كان ، و (مَنْ) في موضع رفع على أنها نائب الفاعل المحذوف ، فتكون هذه الآية على هذه القراءة كقوله في الآية الأخرى : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) (٣) ، والعائد على القراءتين محذوف ، أي : من يضله. وروى أبو عبيد عن الفراء على القراءة الأولى أن معنى (لا يَهْدِي) لا يهتدي ، كقوله تعالى : (أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) (٤) ، بمعنى يهتدي. قال أبو عبيد : ولا نعلم أحدا روى هذا غير الفراء ، وليس بمتهم فيما يحكيه. قال النحّاس : حكي عن محمد بن يزيد المبرّد : كأن معنى (لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) من علم ذلك منه وسبق له عنده (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ينصرونهم على الهداية لمن أضله الله أو ينصرونهم بدفع العذاب عنهم ؛ ثم ذكر عناد قريش وإنكارهم للبعث فقال : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) مصدر في موضع الحال ؛ أي : جاهدين (لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) من عباده ، زعموا أن الله سبحانه عاجز عن بعث الأموات ، فردّ الله عليهم ذلك بقوله : (بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) هذا إثبات لما بعد النفي ، أي : بلى يبعثهم ، و (وَعْداً) مصدر مؤكد لما دلّ عليه بلى وهو يبعثهم ؛ لأن البعث وعد من الله وعد عباده به ، والتقدير : وعد البعث وعدا عليه حقا لا خلف فيه ، وحقا صفة لوعد ، وكذا (عَلَيْهِ) فإنه صفة لوعد ، أي : كائنا عليه ، أو نصب حقا على المصدرية ، أي : حق حقا
__________________
(١). الأعراف : ٣٠.
(٢). يراجع في ذلك زاد المسير (٤ / ٤٤٦)
(٣). الأعراف : ١٨٦.
(٤). يونس : ٣٥.