قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ) الآية هذا جواب شبهة أخرى لمنكري النبوّة ، فإنهم طلبوا من النبي صلىاللهعليهوسلم أن ينزل عليهم ملكا من السماء يشهد على صدقه في ادّعاء النبوّة ، فقال : هل ينظرون في تصديق نبوتك (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) شاهدين بذلك ، ويحتمل أن يقال : إنهم لما طعنوا في القرآن بأنه أساطير الأوّلين أوعدهم الله بقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) لقبض أرواحهم (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) أي : عذابه في الدنيا المستأصل لهم ، أو المراد بأمر الله القيامة. وقرأ الأعمش وابن وثّاب وحمزة والكسائي وخلف «إلا أن يأتيهم الملائكة» بالياء التحتية وقرأ الباقون بالمثناة الفوقية ؛ والمراد بكونهم ينظرون ـ أي : ينتظرون إتيان الملائكة ، أو إتيان أمر الله على التفسير الآخر ـ أنهم قد فعلوا فعل من وجب عليه العذاب وصار منتظرا له ، وليس المراد أنهم ينتظرون ذلك حقيقة ، فإنهم لا يؤمنون بذلك ولا يصدّقونه (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : مثل فعل هؤلاء من الإصرار على الكفر والتكذيب والاستهزاء ؛ فعل الذين خلوا من قبلهم من طوائف الكفار ، فأتاهم أمر الله فهلكوا (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) بتدميرهم بالعذاب فإنه أنزل بهم ما استحقّوه بكفرهم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بما ارتكبوه من القبائح ، وفيه أن ظلمهم مقصور عليهم باعتبار ما إليه يؤول ، وجملة (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) معطوفة على فعل الذين من قبلهم ، وما بينهما اعتراض ؛ وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : كذلك فعل الذين من قبلهم ، فأصابهم سيئات ما عملوا وما ظلمهم الله ، والمعنى : فأصابهم جزاء سيئات أعمالهم ، أو جزاء أعمالهم السيئة (وَحاقَ بِهِمْ) أي : نزل بهم على وجه الإحاطة (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي : العذاب الذي كانوا به يستهزئون أو عقاب استهزائهم (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) هذا نوع آخر من كفرهم الذي حكاه الله عنهم ، والمراد بالذين أشركوا هنا أهل مكة (لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) أي : لو شاء عدم عبادتنا لشيء غيره ما عبدنا ذلك (نَحْنُ وَلا آباؤُنا) الذين كانوا على ما نحن عليه الآن من دين الكفر والشرك بالله. قال الزجاج : إنهم قالوا هذا على جهة الاستهزاء ، ولو قالوه عن اعتقاد لكانوا مؤمنين ، وقد مضى الكلام على مثل هذا في سورة الأنعام (وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) من السوائب والبحائر ونحوهما ، ومقصودهم بهذا القول المعلّق بالمشيئة الطعن في الرسالة ، أي : لو كان ما قاله الرسول حقا من المنع من عبادة غير الله ، والمنع من تحريم ما لم يحرّمه الله ، حاكيا ذلك عن الله لم يقع منا ما يخالف ما أراده منا فإنه قد شاء ذلك ، وما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن ، فلما وقع منا العبادة لغيره وتحريم ما لم يحرمه ؛ كان ذلك دليلا على أن ذلك هو المطابق لمراده والموافق لمشيئته ، مع أنهم في الحقيقة لا يعترفون بذلك ولا يقرّون به ، لكنهم قصدوا ما ذكرنا من الطعن على الرسل (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من طوائف الكفر فإنهم أشركوا بالله ، وحرّموا ما لم يحرمه ، وجادلوا رسله بالباطل ، واستهزءوا بهم ، ثم قال : (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ) الذين يرسلهم الله إلى عباده بما شرعه لهم من شرائعه التي رأسها توحيده ، وترك الشرك به (إِلَّا الْبَلاغُ) إلى من أرسلوا إليهم بما أمروا بتبليغه بلاغا واضحا يفهمه المرسل إليهم ولا يلتبس عليهم ، ثم إنه سبحانه أكّد هذا وزاده إيضاحا فقال : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً) كما بعثنا في هؤلاء لإقامة الحجة عليهم ، (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١) ،
__________________
(١). الإسراء : ١٥.