فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢))
لما بيّن سبحانه أن مخلوقاته السماوية والأرضية منقادة له ، خاضعة لجلاله ، أتبع ذلك بالنهي عن الشرك بقوله : (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) فنهى سبحانه عن اتّخاذ إلهين ، ثم أثبت أن الإلهية منحصرة في إله واحد وهو الله سبحانه ؛ وقد قيل : إنّ التثنية في إلهين قد دلّت على الاثنينية ، والإفراد في إله قد دلّ على الوحدة ، فما وجه وصف إلهين باثنين ، ووصف إله بواحد؟ فقيل في الجواب : إن في الكلام تقديما وتأخيرا ، والتقدير : لا تتخذوا اثنين إلهين إنما هو واحد إله ، وقيل : إن التكرير لأجل المبالغة في التنفير عن اتخاذ الشريك ؛ وقيل : إن فائدة زيادة اثنين هي أن يعلم أن النهي راجع إلى التعدّد لا إلى الجنسية ، وفائدة زيادة واحد دفع توهم أن المراد إثبات الإلهية دون الواحدية ، مع أن الإلهية له سبحانه مسلمة في نفسها ، وإنما خلاف المشركين في الواحدية ، ثم نقل الكلام سبحانه من الغيبة إلى التكلم على طريقة الالتفات لزيادة الترهيب ، فقال : (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) أي : إن كنتم راهبين شيئا فإياي فارهبون لا غيري ، وقد مرّ مثل هذا في أوّل البقرة. ثم لما قرّر سبحانه وحدانيته ، وأنه الذي يجب أن يخصّ بالرهبة منه والرغبة إليه ، ذكر أن الكلّ في ملكه وتحت تصرّفه فقال : (وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وهذه الجملة مقررة لمن تقدّم في قوله : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) إلى آخره ، وتقديم الخبر لإفادة الاختصاص (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) أي : ثابتا واجبا دائما لا يزول ، والدين : هو الطاعة والإخلاص. قال الفراء : (واصِباً) معناه دائما ، ومنه قول الدّؤلي :
أبتغي الحمد القليل بقاؤه |
|
بذمّ يكون الدّهر أجمع واصبا |
أي : دائما. وروي عن الفراء أيضا أنه قال : الواصب : الخالص ، والأوّل أولى ، ومنه قوله سبحانه : (وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) (١) أي : دائم. وقال الزجّاج : أي : طاعته واجبة أبدا. ففسّر الواصب بالواجب. وقال ابن قتيبة في تفسير الواصب : أي : ليس أحد يطاع إلا انقطع ذلك بزوال أو بهلكة غير الله تعالى فإن الطاعة تدوم له ، ففسّر الواصب بالدائم ، وإذا دام الشيء دواما لا ينقطع فقد وجب وثبت ، يقال وصب الشيء يصب وصوبا فهو واصب ؛ إذا دام ، ووصب الرجل على الأمر ؛ إذا واظب عليه ؛ وقيل : الوصب التعب والإعياء ، أي : يجب طاعة الله سبحانه وإن تعب العبد فيها وهو غير مناسب لما في الآية ، والاستفهام في قوله : (أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ) للتقريع والتوبيخ ، وهو معطوف على مقدّر كما في نظائره ، والمعنى : إذا كان الدين ، أي : الطاعة واجبا له دائما لا ينقطع ؛ كان المناسب لذلك تخصيص التقوى به وعدم إيقاعها لغيره. ثم امتنّ سبحانه عليهم بأن جميع ما هم متقلبون فيه من النعم هو منه لا من غيره فقال : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ) أي : ما يلابسكم من النعم على اختلاف أنواعها فمن الله : أي فهي منه ، فتكون ما شرطية ، ويجوز أن تكون موصولة متضمّنة معنى الشرط ، وبكم صلتها ، ومن نعمة حال من الضمير في الجار والمجرور ،
__________________
(١). الصافات : ٩.