الذي قد مضى ، وهو الذي وقع فيه التزيين من الشيطان للأمم الماضية فيكون على طريق الحكاية للحال الماضية. الثاني : أن يراد البعض الحاضر ، وهو وقت نزول الآية. والمراد تزيين الشيطان لكفار قريش فيكون الضمير في (وَلِيُّهُمُ) لكفار قريش ، أي : فهو وليّ هؤلاء اليوم ، أو على حذف مضاف ، أي : فهو وليّ أمثال أولئك الأمم اليوم (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : في الآخرة وهو عذاب النار. ثم ذكر سبحانه أنه ما هلك من هلك إلا بعد إقامة الحجة عليهم وإزاحة العلة منهم ، فقال : (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) وهذا خطاب لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، والمراد بالكتاب القرآن ، والاستثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال ، أي : ما أنزلناه عليك لحال من الأحوال ولا لعلة من العلل إلا لعلّة التبيين لهم ، أي : للناس الذي اختلفوا فيه من التوحيد وأحوال البعث وسائر الأحكام الشرعية ، (وَ) انتصاب (هُدىً وَرَحْمَةً) على أنهما مفعول لهما معطوفان على محل لتبين ، ولا حاجة إلى اللام ؛ لأنهما فعلا فاعل الفعل المعلل ، بخلاف التبيين فإنه فعل المخاطب لا فعل المنزل (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بالله سبحانه ويصدّقون ما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب. ثم عاد سبحانه إلى تقرير وجوده وتفرّده بالإلهية بذكر آياته العظام فقال : (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي : من السحاب ، أو من جهة العلو كما مرّ ، أي : نوعا من أنواع الماء (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي : أحياها بالنبات بعد أن كانت يابسة لا حياة بها (إِنَّ فِي ذلِكَ) الإنزال والإحياء (لَآيَةً) أي : علامة دالة على وحدانيته وعلى بعثه للخلق ومجازاتهم (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) كلام الله ويفهمون ما يتضمنه من العبر ، ويتفكّرون في خلق السموات والأرض (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) الأنعام هي الإبل والبقر والغنم ويدخل في الغنم المعز ، والعبرة أصلها تمثيل الشيء بالشيء ليعرف حقيقته بطريق المشاكلة ، ومنه : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) (١). وقال أبو بكر الوراق : العبرة في الأنعام تسخيرها لأربابها وطاعتها لهم ، والظاهر أن العبرة هي قوله : (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) فتكون الجملة مستأنفة لبيان العبرة. قرأ أهل المدينة وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر (نُسْقِيكُمْ) بفتح النون من سقى يسقي. وقرأ الباقون وحفص عن عاصم بضم النون من أسقى يسقي ، قيل : هما لغتان. قال لبيد :
سقى قومي بني مجد وأسقى |
|
نميرا والقبائل من هلال |
وقرئ بالتاء الفوقية على أن الضمير راجع إلى الأنعام ، وقرئ بالتحتية على إرجاع الضمير إلى الله سبحانه ، وهما ضعيفتان ، وجميع القرّاء على القراءتين الأوليين ، والفتح لغة قريش ، والضم لغة حمير ؛ وقيل : إن بين سقى وأسقى فرقا ، فإذا كان الشراب من يد الساقي إلى فم المسقي فيقال سقيته ، وإن كان بمجرّد عرضه عليه وتهيئته له قيل أسقاه. والضمير في قوله : (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) راجع إلى الأنعام. قال سيبويه : العرب تخبر عن الأنعام بخبر الواحد. وقال الزجّاج : لما كان لفظ الجمع يذكّر ويؤنّث ، فيقال هو الأنعام ، وهي الأنعام جاز عود الضمير بالتذكير. وقال الكسائي : معناه ممّا في بطون ما ذكرنا فهو على هذا عائد إلى المذكور.
__________________
(١). الحشر : ٢.