قال الفراء : وهو صواب. وقال المبرد : هذا فاش في القرآن كثير مثل قوله للشمس (هذا رَبِّي) (١) يعني هذا الشيء الطالع ، وكذلك : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ) (٢) ، ثم قال : (فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ) (٣) ، ولم يقل جاءت لأن المعنى جاء الشيء الذي ذكرنا انتهى ، ومن ذلك قوله : (إِنَّها تَذْكِرَةٌ ـ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) (٤) ومثله قول الشاعر :
مثل الفراخ نتفت حواصله
ولم يقل حواصلها. وقول الآخر :
وطاب إلقاح اللبان وبرد
ولم يقل وبردت. وحكي عن الكسائي أن المعنى مما في بطون بعضه وهي الإناث ؛ لأن الذكور لا ألبان لها ، وبه قال أبو عبيدة ، وحكي عن الفراء أنه قال : النعم والأنعام واحد يذكر ويؤنث ، ولهذا تقول العرب : هذه نعم وارد فرجع الضمير إلى لفظ النعم الذي هو بمعنى الأنعام ، وهو كقول الزجّاج ورجّحه ابن العربي فقال : إنما يرجع التذكير إلى معنى الجمع ، والتأنيث إلى معنى الجماعة ، فذكّره هنا باعتبار لفظ الجمع وأنّثه في سورة المؤمنين باعتبار لفظ الجماعة (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ) الفرث : الزبل الذي ينزل إلى الكرش ، فإذا خرج منه لم يسم فرثا ، يقال : أفرثت الكرش إذا أخرجت ما فيها. والمعنى : أن الشيء الذي تأكله يكون منه ما في الكرش ، وهو الفرث ويكون منه الدم ، فيكون أسفله فرثا ، وأعلاه دما ، وأوسطه (لَبَناً) فيجري الدم في العروق واللبن في الضروع ، ويبقى الفرث كما هو (خالِصاً) يعني من حمرة الدم وقذارة الفرث بعد أن جمعهما وعاء واحد (سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) أي : لذيذا هنيئا لا يغصّ به من شربه ، يقال : ساغ الشراب يسوغ سوغا ، أي : سهل مدخله في الحلق (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ) قال ابن جرير : التقدير : ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون ، فحذف ودلّ على حذفه قوله منه ، وقيل : هو معطوف على الأنعام ، والتقدير : وإن لكم من ثمرات النخيل والأعناب لعبرة ، ويجوز أن يكون معطوفا على مما في بطونه ، أي : نسقيكم مما في بطونه ومن ثمرات النخيل ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف دلّ عليه ما قبله تقديره : ونسقيكم من ثمرات النخيل ، ويكون على هذا (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) بيانا للإسقاء وكشفا عن حقيقته ، ويجوز أن يتعلّق بتتخذون ، تقديره ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه سكرا ، ويكون تكرير الظرف ، وهو قوله منه للتأكيد كقولك زيد في الدار فيها ، وإنما ذكر الضمير في منه لأنه يعود إلى المذكور ، أو إلى المضاف المحذوف ؛ وهو العصير ، كأنه قيل : ومن عصير ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه ، والسكر ما يسكر من الخمر ، والرزق الحسن جميع ما يؤكل من هاتين الشجرتين كالثمر والدبس والزبيب والخل ، وكان نزول هذه الآية قبل تحريم الخمر ؛ وقيل : إن السكر الخلّ بلغة الحبشة ، والرزق الحسن الطعام من الشجرتين ؛ وقيل : السكر العصير الحلو الحلال ، وسمّي سكرا لأنه قد يصير مسكرا إذا بقي ، فإذا بلغ الإسكار حرم. والقول
__________________
(١). الأنعام : ٧٨.
(٢). النمل : ٣٥.
(٣). النمل : ٣٦.
(٤). عبس : ١١ و ١٢.