وملهم النحل أن تسلكها ؛ أي ادخلي طرق ربّك لطلب الرزق في الجبال وخلال الشجر ، أو اسلكي ما أكلت في سبل ربك ، أي : في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النّور عسلا أو إذا أكلت الثمار في الأمكنة البعيدة فاسلكي إلى بيوتك راجعة سبل ربك لا تضلّين فيها ، وانتصاب (ذُلُلاً) على الحال من السّبل ، وهي جمع ذلول ؛ أي : مذلّلة غير متوعّرة ، واختار هذا الزجاج وابن جرير ، وقيل : حال من النحل ، يعني : مطيعة للتسخير وإخراج العسل من بطونها ، واختار هذا ابن قتيبة ، وجملة (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها) مستأنفة عدل به عن خطاب النحل ، تعديدا للنعم ، وتعجيبا لكل سامع ، وتنبيها على العبرة ، وإرشادا إلى الآيات العظيمة الحاصلة من هذا الحيوان الشبيه بالذباب ، والمراد بال (شَرابٌ) في الآية هو العسل ، ومعنى (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) أن بعضه أبيض وبعضه أحمر وبعضه أزرق وبعضه أصفر باختلاف ذوات النحل وألوانها ومأكولاتها. وجمهور المفسّرين على أن العسل يخرج من أفواه النحل ؛ وقيل : من أسفلها ؛ وقيل : لا يدرى من أين يخرج منها ، والضمير في قوله : (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) راجع إلى الشراب الخارج من بطون النحل وهو العسل ، وإلى هذا ذهب الجمهور. وقال الفراء وابن كيسان وجماعة من السلف : إن الضمير راجع إلى القرآن ، ويكون التقدير فيما قصصنا عليكم من الآيات والبراهين شفاء للناس ، ولا وجه للعدول عن الظاهر ومخالفة المرجع الواضح والسياق البيّن.
وقد اختلف أهل العلم : هل هذا الشّفاء الذي جعله الله في العسل عام لكل داء أو خاص ببعض الأمراض؟ فقالت طائفة : هو على العموم ، وقالت طائفة : إن ذلك خاصّ ببعض الأمراض ، ويدل على هذا أن العسل نكرة في سياق الإثبات فلا يكون عاما ، وتنكيره إن أريد به التعظيم لا يدل إلا على أن فيه شفاء عظيما لمرض أو أمراض ، لا لكل مرض ، فإن تنكير التعظيم لا يفيد العموم ، والظاهر المستفاد من التجربة ومن قوانين علم الطب ، أنه إذا استعمل منفردا كان دواء لأمراض خاصة وإن خلط مع غيره كالمعاجين ونحوها كان مع ما خلط به دواء لكثير من الأمراض. وبالجملة فهو من أعظم الأغذية وأنفع الأدوية ، وقليلا ما يجتمع هذان الأمران في غيره (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور من أمر النحل (لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي : يعملون أفكارهم عند النظر في صنع الله سبحانه وعجائب مخلوقاته ، فإن أمر النحل من أعجبها وأغربها وأدقّها وأحكمها.
وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور ، وأبو داود في ناسخه ، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحّاس ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في سننه ، وابن مردويه عن ابن عباس أنه سئل عن قوله : (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) قال : السكر : ما حرم من ثمرتهما ، والرزق الحسن : ما حلّ. وأخرج الفريابي وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه قال : السكر : الحرام ، والرزق الحسن : زبيبه وخلّه وعنبه ومنافعه. وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : السكر النبيذ ، والرزق الحسن الزبيب ، فنسختها هذه الآية : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ). وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عنه أيضا في الآية قال : فحرّم الله بعد ذلك السكر منع تحريم الخمر لأنه منه ، ثم قال : (وَرِزْقاً حَسَناً) فهو الحلال من الخلّ والزبيب والنبيذ وأشباه ذلك ، فأقرّه الله وجعله حلالا للمسلمين. وأخرج الفريابي وابن أبي