والمعروف ، وانتصاب (سِرًّا وَجَهْراً) على الحال ، أي : ينفق منه في حال السرّ وحال الجهر ؛ والمراد بيان عموم الإنفاق للأوقات ، وتقديم السرّ على الجهر مشعر بفضيلته عليه ، وأن الثواب فيه أكثر ؛ وقيل : إن (مَنْ) في (وَمَنْ رَزَقْناهُ) موصوفة كأنه قيل : وحرّا رزقناه ليطابق عبدا (هَلْ يَسْتَوُونَ) أي : الحرّ والعبد الموصوفان بالصّفات المتقدّمة ، وجمع الضمير لمكان من ؛ لأنه اسم مبهم يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث ؛ وقيل : إنه أريد بالعبد والموصول الذي هو عبادة عن الحرّ الجنس ، أي : من اتّصف بتلك الأوصاف من الجنسين ، والاستفهام للإنكار ، أي : هل يستوي العبيد والأحرار الموصوفون بتلك الصفات مع كون كلا الفريقين مخلوقين لله سبحانه من جملة البشر ، ومن المعلوم أنهم لا يستوون عندهم ، فكيف يجعلون لله سبحانه شركاء لا يملكون لهم ضرّا ولا نفعا ، ويجعلونهم مستحقّين للعبادة مع الله سبحانه؟ وحاصل المعنى : أنه كما لا يستوي عندكم عبد مملوك لا يقدر من أمره على شيء ورجل حرّ قد رزقه الله رزقا حسنا فهو ينفق منه ، كذلك لا يستوي الربّ الخالق الرازق والجمادات من الأصنام التي تعبدونها وهي لا تبصر ولا تسمع ولا تضرّ ولا تنفع ؛ وقيل : المراد بالعبد المملوك في الآية هو الكافر المحروم من طاعة الله وعبوديته ، والآخر هو المؤمن ؛ والغرض أنهما لا يستويان في الرتبة والشرف ؛ وقيل : العبد هو الصنم ، والثاني عابد الصنم ، والمراد أنهما لا يستويان في القدرة والتصرّف ؛ لأن الأوّل جماد ، والثاني إنسان (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي : الحمد لله كله ؛ لأنه المنعم لا يستحق غيره من العباد شيئا منه ، فكيف تستحق الأصنام منه شيئا ولا نعمة منها أصلا لا بالأصالة ولا بالتوسط ؛ وقيل : أراد الحمد لله على ما أنعم به على أوليائه من نعمة التوحيد ؛ وقيل : أراد قل الحمد لله ، والخطاب إما لمحمد صلىاللهعليهوسلم أو لمن رزقه الله رزقا حسنا ؛ وقيل : إنه لما ذكر مثلا مطابقا للغرض كاشفا عن المقصود قال الحمد لله ، أي : على قوّة هذه الحجة (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ذلك حتى يعبدوا من تحقّ له العبادة ويعرفوا المنعم عليهم بالنعم الجليلة ، ونفي العلم عنهم إما لكونهم من الجهل بمنزلة لا يفهمون بسببها ما يجب عليهم ، أو هم يتركون الحق عنادا مع علمهم به فكانوا كمن لا علم له ، وخصّ الأكثر بنفي العلم ؛ إما لكونه يريد الخلق جميعا ، وأكثرهم المشركون ، أو ذكر الأكثر وهو يريد الكلّ ، أو المراد أكثر المشركين ، لأن فيهم من يعلم ولا يعمل بموجب العلم. ثم ذكر سبحانه مثلا ثانيا ضربه لنفسه ، ولما يفيض على عباده من النعم الدينية والدنيوية ، وللأصنام التي هي أموات لا تضرّ ولا تنفع فقال : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) أي : مثلا آخر أوضح مما قبله وأظهر منه ، و (رَجُلَيْنِ) بدل من مثل وتفسير له ، والأبكم : العييّ المفحم ؛ وقيل : هو الأقطع اللسان الذي لا يحسن الكلام ، وروى ثعلب عن ابن الأعرابي أنه الذي لا يسمع ولا يبصر ، ثم وصف الأبكم فقال : (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) من الأشياء المتعلقة بنفسه أو بغيره لعدم فهمه وعدم قدرته على النطق ، ومعنى (كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) ثقيل على وليه وقرابته وعيال على من يلي أمره ويعوله ووبال على إخوانه ، وقد يسمّى اليتيم كلا لثقله على من يكفله ، ومنه قول الشاعر :
أكول لمال الكلّ قبل شبابه |
|
إذا كان عظم الكلّ غير شديد |
وفي هذا بيان لعدم قدرته على إقامة مصالح نفسه بعد ذكر عدم قدرته على شيء مطلقا. ثم وصفه بصفة