رابعة فقال : (أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ) أي : إذا وجّهه إلى أيّ جهة لا يأت بخير قط ؛ لأنه لا يفهم ولا يعقل ما يقال له ولا يمكنه أن يقول. وقرأ يحيى بن وثّاب «أينما يوجّه» على البناء للمجهول ، وقرأ ابن مسعود «أينما توجّه» على صيغة الماضي (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ) في نفسه مع هذه الأوصاف التي اتّصف بها (وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) أي : يأمر الناس بالعدل مع كونه في نفسه ينطق بما يريد النطق به ويفهم ، ويقدر على التصرّف في الأشياء (وَهُوَ) في نفسه (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) على دين قويم وسيرة صالحة ليس فيه ميل إلى أحد جانبي الإفراط والتفريط ، قابل أوصاف الأول بهذين الوصفين المذكورين للآخر ؛ لأن حاصل أوصاف الأوّل عدم استحقاقه لشيء ، وحاصل وصفي هذا أنه مستحق أكمل استحقاق ، والمقصود الاستدلال بعدم تساوي هذين المذكورين على امتناع التساوي بينه سبحانه وبين ما يجعلونه شريكا له. ولما فرغ سبحانه من ذكر المثلين مدح نفسه بقوله : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : يختصّ ذلك به لا يشاركه فيه غيره ولا يستقل به ، والمراد علم ما غاب عن العباد فيهما ، أو أراد بغيبهما يوم القيامة ؛ لأن علمه غائب عن العباد ، ومعنى الإضافة إليهما التعلق بهما. والمعنى : التوبيخ للمشركين والتقريع لهم ، أي : أن العبادة إنما يستحقها من كانت هذه صفته لا من كان جاهلا عاجزا لا يضرّ ولا ينفع ولا يعلم بشيء من أنواع العلم (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ) التي هي أعظم ما وقعت فيه المماراة من الغيوب المختصّة به سبحانه (إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ) اللمح النظر بسرعة ، ولا بدّ فيه من زمان تتقلب فيه الحدقة نحو المرئي وكل زمان قابل للتجزئة ، ولذا قال : (أَوْ هُوَ) أي : أمرهما (أَقْرَبُ) وليس هذا من قبيل المبالغة ، بل هو كلام في غاية الصدق ؛ لأن مدّة ما بين الخطاب وقيام الساعة متناهية ، ومنها إلى الأبد غير متناه ، ولا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي ؛ أو يقال : إن الساعة لما كانت آتية ولا بدّ جعلت من القرب كلمح البصر. وقال الزجاج : لم يرد أن الساعة تأتي في لمح البصر ، وإنما وصف سرعة القدرة على الإتيان بها ، لأنه يقول للشيء كن فيكون ؛ وقيل : المعنى : هي عند الله كذلك وإن لم تكن عند المخلوقين بهذه الصفة ، ومثله قوله سبحانه : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً ـ وَنَراهُ قَرِيباً) (١). ولفظ أو في : (أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) ليس للشك بل للتمثيل ؛ وقيل : دخلت لشك المخاطب ، وقيل : هي بمنزلة بل (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومجيء الساعة بسرعة من جملة مقدوراته. ثم إنه سبحانه ذكر حالة أخرى للإنسان دالة على غاية قدرته ونهاية رأفته فقال : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) وهذا معطوف على قوله : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) منتظم معه في سلك أدلة التوحيد ؛ أي : أخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا لا علم لكم بشيء ، وجملة لا تعلمون شيئا في محل نصب على الحال ؛ وقيل : المراد لا تعلمون شيئا مما أخذ عليكم من الميثاق ، وقيل : لا تعلمون شيئا ممّا قضي به عليكم من السعادة والشقاوة ، وقيل : لا تعلمون شيئا من منافعكم. والأولى التعميم لتشمل الآية هذه الأمور وغيرها اعتبارا بعموم اللفظ ، فإن شيئا نكرة واقعة في سياق النفي. وقرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة «إمهاتكم» بكسر الهمزة والميم ـ هنا ـ وفي النور والزمر والنجم. وقرأ الكسائي بكسر الهمزة وفتح الميم. وقرأ الباقون بضم الهمزة وفتح الميم
__________________
(١). المعارج : ٦ و ٧.