(وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي : ركب فيكم هذه الأشياء ، وهو معطوف على أخرجكم ، وليس فيه دلالة على تأخير هذا الجعل عن الإخراج لما أن مدلول الواو هو مطلق الجمع. والمعنى : جعل لكم هذه الأشياء لتحصلوا بها العلم الذي كان مسلوبا عنكم عند إخراجكم من بطون أمهاتكم ، وتعملوا بموجب ذلك العلم من شكر المنعم وعبادته والقيام بحقوقه ، والأفئدة : جمع فؤاد ، وهو وسط القلب ، منزل منه بمنزلة القلب من الصدر ، وقد قدّمنا الوجه في إفراد السمع وجمع الأبصار والأفئدة ، وهو أن أفراد السمع لكونه مصدرا في الأصل يتناول القليل والكثير (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي : لكي تصرفوا كلّ آلة فيما خلقت له ، فعند ذلك تعرفون مقدار ما أنعم الله به عليكم فتشكرونه ، أو أن هذا الصرف هو نفس الشكر. ثم ذكر سبحانه دليلا آخر على كمال قدرته ، فقال : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ) أي : ألم ينظروا إليها حال كونها مسخرات ، أي : مذللات للطيران بما خلق الله لها من الأجنحة وسائر الأسباب المؤاتية لذلك كرقة قوام الهواء ، وإلهامها بسط الجناح وقبضه ؛ كما يفعل السابح في الماء (فِي جَوِّ السَّماءِ) أي : في الهواء المتباعد من الأرض في سمت العلو ، وإضافته إلى السماء لكونه في جانبها (ما يُمْسِكُهُنَ) في الجوّ (إِلَّا اللهُ) سبحانه بقدرته الباهرة ، فإن ثقل أجسامها ورقة قوام الهواء يقتضيان سقوطها ، لأنها لم تتعلق بشيء من فوقها ، ولا اعتمدت على شيء تحتها. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وابن عامر وحمزة ويعقوب «ألم تروا» بالفوقية على الخطاب ، واختار هذه القراءة أبو عبيد. وقرأ الباقون بالتحتية (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي : إن في ذلك التسخير على تلك الصفة لآيات ظاهرات تدلّ على وحدانية الله سبحانه وقدرته الباهرة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بالله سبحانه وبما جاءت به رسله من الشرائع التي شرعها الله.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً) الآية. قال : يعني الكافر أنه لا يستطيع أن ينفق نفقة في سبيل الله (وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً) الآية قال : يعني المؤمن ، وهذا المثل في النفقة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم نحوه بأطول منه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية ، وفي قوله : (مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ) قال : كل هذا مثل إله الحق وما تدعون من دونه الباطل. وأخرج ابن المنذر من طريق ابن جريج عن ابن عباس قال : في المثل الأوّل يعني بذلك الآلهة التي لا تملك ضرّا ولا نفعا ولا تقدر على شيء ينفعها (وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً) قال : علانية ، الذي ينفق سرّا وجهرا لله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عنه قال : نزلت هذه الآية : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً) في رجل من قريش وعبده ، وفي هشام بن عمرو ، وهو الذي ينفق سرّا وجهرا ، وفي عبده أبي الجوزاء الذي كان ينهاه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ) الآية قال : يعني بالأبكم الذي : (هُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) الكافر (وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) المؤمن ، وهذا المثل في الأعمال. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عنه أيضا قال : نزلت هذه الآية : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ) الآية في عثمان بن عفان ومولى له كافر ، وهو أسيد