من الكبائر إشعارا بأن مجرّد الكراهة عنده تعالى يوجب انزجار السامع واجتنابه لذلك. والحاصل أن في الخصال المتقدّمة ما هو حسن وهو المأمور به ، وما هو مكروه وهو المنهيّ عنه ، فعلى قراءة الإضافة تكون الإشارة بقوله : (كُلُّ ذلِكَ) إلى جميع الخصال حسنها ومكروهها ، ثم الإخبار بأن ما هو سيئ من هذه الأشياء وهو المنهي عنه مكروه عند الله ، وعلى قراءة الإفراد من دون إضافة تكون الإشارة إلى المنهيات ، ثم الإخبار عن هذه المنهيات بأنها سيئة مكروهة عند الله (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) الإشارة إلى ما تقدّم ذكره من قوله : (لا تَجْعَلْ) إلى هذه الغاية ، وترتقي إلى خمسة وعشرين تكليفا ، (مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ) أي : من جنسه أو بعض منه ، وسمّي حكمة لأنه كلام محكم ، وهو ما علمه من الشرائع أو من الأحكام المحكمة التي لا يتطرّق إليها الفساد. وعند الحكماء أن الحكمة عبارة عن معرفة الحق لذاته ، و (مِنَ الْحِكْمَةِ) متعلّق بمحذوف وقع حالا ، أي : كائنا من الحكمة ، أو بدل من الموصول بإعادة الجار ، أو متعلّق بأوحى (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) كرّر سبحانه النهي عن الشرك تأكيدا وتقريرا وتنبيها على أنه رأس خصال الدين وعمدته. قيل : وقد راعى سبحانه في هذا التأكيد دقيقة (١) فرتب على الأوّل كونه مذموما مخذولا ، وذلك إشارة إلى حال الشرك في الدنيا ، ورتّب على الثاني أنه يلقى (فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً) وذلك إشارة إلى حاله في الآخرة ، وفي القعود هناك ، والإلقاء هنا ، إشارة إلى أن للإنسان في الدنيا صورة اختيار بخلاف الآخرة ، وقد تقدّم تفسير الملوم والمدحور. (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً) قال أبو عبيدة : أصفاكم خصّكم ، وقال الفضل : أخلصكم ، وهو خطاب للكفار القائلين بأن الملائكة بنات الله ، وفيه توبيخ شديد وتقريع بالغ لما كان يقوله هؤلاء الذين هم كالأنعام بل هم أضل ، والفاء للعطف على مقدّر كنظائره ممّا قد كررناه. (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ) يعني القائلين بأن لهم الذكور ولله الإناث (قَوْلاً عَظِيماً) بالغا في العظم والجرأة على الله إلى مكان لا يقادر قدره (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ) أي : بيّنا ضروب القول فيه من الأمثال وغيرها ، أو كرّرنا فيه ؛ وقيل : (فِي) زائدة ، والتقدير ولقد صرّفنا هذا القرآن ، والتصريف في الأصل : صرف الشيء من جهة إلى جهة ؛ وقيل : معنى التصريف المغايرة ، أي : غايرنا بين المواعظ ليتذكّروا ويعتبروا ، وقراءة الجمهور (صَرَّفْنا) بالتشديد ، وقرأ الحسن بالتخفيف ، ثم علّل تعالى ذلك فقال : (لِيَذَّكَّرُوا) أي : ليتّعظوا ويتدبّروا بعقولهم ويتفكروا فيه ؛ حتى يقفوا على بطلان ما يقولونه. قرأ يحيى بن وثّاب والأعمش وحمزة والكسائي «ليذكروا» مخففا ، والباقون بالتشديد ، واختارها أبو عبيد لما تفيده من معنى التكثير ، وجملة (وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً) في محل نصب على الحال ؛ أي : والحال أن هذا التصريف والتذكير ما يزيدهم إلا تباعدا عن الحقّ وغفلة عن النظر في الصواب ؛ لأنهم قد اعتقدوا في القرآن أنه حيلة وسحر وكهانة وشعر ، وهم لا ينزعون عن هذه الغواية ولا وازع لهم يزعهم إلى الهداية.
وقد أخرج ابن جرير عن قتادة في قوله : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) قال : كانوا لا يخالطونهم في مال
__________________
(١). أي : مسألة دقيقة.