الزجاج فقال : هذا محال لأن كهيعص ليس هو مما أنبأنا الله عزوجل به عن زكريا ، وقد أخبر الله تبارك وتعالى عنه وعما بشّر به ، وليس كهيعص من قصته ، أو على أنها خبر مبتدأ محذوف ، وإن جعلت مسرودة على نمط التعديد ، فقوله : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ) خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هذا ذكر رحمة ربك. وقيل : هو مبتدأ خبره محذوف ، أي : فيما يتلى عليك ذكر رحمة ربك. قال الزجّاج : ذكر مرتفع بالمضمر ، والمعنى : هذا الذي نتلوه عليك ذكر رحمة ربك (عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) يعني إجابته إياه حين دعاه وسأله الولد ، وانتصاب عبده على أنه مفعول للرحمة قاله الأخفش. وقيل : للذكر. ومعنى ذكر الرحمة بلوغها وإصابتها ، كما يقال : ذكرني معروف فلان ، أي : بلغني. وقرأ يحيى بن يعمر (ذِكْرُ) بالنصب ، وقرأ أبو العالية «عبده» بالرفع على أن المصدر مضاف إلى المفعول ، وفاعل الذكر هو عبده ، وزكريا على القراءتين عطف بيان له أو بدل منه ، وقرأ الكلبي ذكر على صيغة الفعل الماضي مشدّدا ومخفّفا على أن الفاعل عبده ، وقرأ ابن معمر على الأمر ، وتكون الرحمة على هذا عبارة عن زكريا ، لأنّ كل نبيّ رحمة لأمته (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) العامل في الظرف رحمة ، وقيل : ذكر ، وقيل : هو بدل اشتمال من زكريا. واختلف في وجه كون ندائه هذا خفيا ، فقيل : لأنه أبعد عن الرياء ، وقيل : أخفاه ؛ لئلا يلام على طلبه للولد في غير وقته ، ولكونه من أمور الدنيا ، وقيل : أخفاه مخافة من قومه ، وقيل : كان ذلك منه لكونه قد صار ضعيفا ، هرما ، لا يقدر على الجهر (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) هذه الجملة مفسرة لقوله : نادى ربه ، يقال : وهن يهن وهنا إذا ضعف ، فهو واهن ، وقرئ بالحركات الثلاث ، أراد أن عظامه فترت وضعفت قوّته ، وذكر العظم ؛ لأنه عمود البدن ، وبه قوامه ، وهو أصل بنائه ، فإذا وهن تداعى وتساقطت قوّته ، ولأن أشدّ ما في الإنسان صلبه ، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن ، ووحّد العظم قصدا إلى الجنس المفيد لشمول الوهن لكل فرد من أفراد العظام (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) قرأ أبو عمرو بإدغام السين في الشين ، والباقون بعدمه ، والاشتعال في الأصل : انتشار شعاع النار ، فشبّه به انتشار بياض شعر الرأس في سواده بجامع البياض والإنارة ، ثم أخرجه مخرج الاستعارة بالكناية ، بأن حذف المشبه به وأداة التشبيه ، وهذه الاستعارة من أبدع الاستعارات وأحسنها. قال الزجّاج : يقال للشيب إذا كثر جدّا قد اشتعل رأس فلان ، وأنشد للبيد :
إن ترى رأسي أمسى واضحا |
|
سلّط الشّيب عليه فاشتعل |
وانتصاب شيبا على التمييز ، قاله الزجّاج. وقال الأخفش : انتصابه على المصدر ؛ لأن معنى اشتعل : شاب. قال النّحّاس : قول الأخفش أولى لأنه مشتق من فعل ، والمصدرية أظهر فيما كان كذلك ، وكان الأصل اشتعل شيب رأسي ، فأسند الاشتعال إلى الرأس لإفادة الشمول (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) أي : لم أكن بدعائي إياك خائبا في وقت من الأوقات ، بل كلما دعوتك استجبت لي.
قال العلماء : يستحبّ للمرء أن يجمع في دعائه بين الخضوع ، وذكر نعم الله عليه كما فعل زكريا هاهنا ، فإن في قوله : (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) غاية الخضوع والتذلل وإظهار الضعف والقصور عن نيل مطالبه ، وبلوغ مآربه ، وفي قوله : (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) ذكر ما عوّده الله من الإنعام