لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) (١) وقيل : الوليّ بمعنى التالي ، وقيل : الوليّ بمعنى القريب ، أي : تكون للشيطان قريبا منه في النار ، فلما مرّت هذه النصائح النافعة والمواعظ المقبولة بسمع آزر قابلها بالغلظة والفظاظة والقسوة ، ف (قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ) والاستفهام للتقريع والتوبيخ والتعجيب ، والمعنى : أمعرض أنت عن ذلك ومنصرف إلى غيره؟ ثم توعّده فقال : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ) أي : بالحجارة ، وقيل : باللسان ، فيكون معناه لأشتمنك ، وقيل : معناه لأضربنك ، وقيل : لأظهرنّ أمرك (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) أي : زمانا طويلا. قال الكسائي : يقال : هجرته مليّا وملوة وملوة وملاوة وملاوة ، بمعنى الملاوة من الزمان ، وهو الطويل ، ومنه قول مهلهل :
فتصدّعت صمّ الجبال لموته |
|
وبكت عليه المرملات مليّا |
وقيل : معناه : اعتزلني سالم العرض لا تصيبك مني معرّة ، واختار هذا ابن جرير ، فمليا على هذا منتصب على الحال من إبراهيم ، وعلى القول الأوّل منتصب على الظرفية ، فلما رأى إبراهيم إصرار أبيه على العناد (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ) أي : تحية توديع ومتاركة ، كقوله : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) (٢) وقيل معناه : أمنة مني لك ، قاله ابن جرير ، وإنما أمنه مع كفره لأنه لم يؤمر بقتاله ، والأوّل أولى ، وبه قال الجمهور ؛ وقيل : معناه : الدعاء له بالسلامة ، استمالة له ورفقا به ، ثم وعده بأن يطلب له المغفرة من الله سبحانه تألفا له وطمعا في لينه وذهاب قسوته :
والشّيخ لا يترك أخلاقه |
|
حتى يوارى في ثرى رمسه (٣) |
وكان منه هذا الوعد قبل أن يعلم أنه يموت على الكفر ، وتحقّ عليه الكلمة ، ولهذا قال الله سبحانه في موضع آخر : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) (٤) بعد قوله : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) (٥). وجملة (إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) تعليل لما قبلها ؛ والمعنى : سأطلب لك المغفرة من الله ، فإنه كان بي كثير البرّ واللطف ، يقال : حفي به وتحفّى إذا برّه. قال الكسائي : يقال حفي بي حفاوة وحفوة. وقال الفراء : (إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) أي : عالما لطيفا يجيبني إذا دعوته. ثم صرّح الخليل بما تضمّنه سلامه من التوديع والمتاركة فقال : (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : أهاجر بديني عنكم وعن معبوداتكم ؛ حيث لم تقبلوا نصحي ، ولا نجعت فيكم دعوتي (وَأَدْعُوا رَبِّي) وحده (عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) أي : خائبا ، وقيل : عاصيا. قيل : أراد بهذا الدعاء : هو أن يهب الله له ولدا وأهلا يستأنس بهم في اعتزاله ، ويطمئن إليهم عند وحشته ؛ وقيل : أراد دعاءه لأبيه بالهداية ، وعسى للشك لأنه كان لا يدري هل يستجاب له فيه أم لا ، والأوّل أولى لقوله : (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) أي : جعلنا هؤلاء الموهوبين له أهلا وولدا بدل الأهل الذين فارقهم (وَكُلًّا
__________________
(١). الزخرف : ٦٧.
(٢). الفرقان : ٦٩.
(٣). البيت لصالح بن عبد القدوس. (تاريخ بغداد ٩ / ٣٠٣)
(٤). التوبة : ١١٤.
(٥). التوبة : ١١٤.