عمّا كان يعتريه من جهة المشركين من التعب ، والشقاء يجيء في معنى التعب. قال ابن كيسان : وأصل الشقاء في اللغة العناء والتعب ، ومنه قول الشاعر:
ذو العقل يشقى في النّعيم بعقله |
|
وأخو الجهالة في الشّقاوة ينعم |
والمعنى : ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب بفرط تأسّفك عليهم وعلى كفرهم ، وتحسّرك على أن يؤمنوا ، فهو كقوله سبحانه : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) (١) قال النحّاس : بعض النحويين يقول : هذه اللام في (لِتَشْقى) لام النفي ، وبعضهم يقول لام الجحود. وقال ابن كيسان : هي لام الخفض ، وهذا التفسير للآية هو على قول من قال إن طه كسائر فواتح السور التي ذكرت تعديدا لأسماء الحروف ، وإن جعلت اسما للسورة كان قوله : (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) خبرا عنها ، وهي في موضع المبتدأ ، وأما على قول من قال : إن معناها يا رجل ، أو بمعنى الأمر بوطء الأرض فتكون الجملة مستأنفة لصرفه صلىاللهعليهوسلم عمّا كان عليه من المبالغة في العبادة ، وانتصاب (إِلَّا تَذْكِرَةً) على أنه مفعول له لأنزلنا ، كقولك : ما ضربتك للتأديب إلا إشفاقا عليك. وقال الزجّاج : هو بدل من لتشقى ، أي : ما أنزلناه إلا تذكرة. وأنكره أبو علي الفارسي من جهة أن التذكرة ليست بشقاء ، قال : وإنما هو منصوب على المصدرية ، أي : أنزلناه لتذكر به تذكرة ، أو على المفعول من أجله ، أي : ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى به ، ما أنزلناه إلا للتذكرة ، وانتصاب (تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى) على المصدرية ، أي : أنزلناه تنزيلا ، وقيل : بدل من قوله تذكرة ، وقيل : هو منصوب على المدح ، وقيل : منصوب بيخشى ، أي : يخشى تنزيلا من الله على أنه مفعول به ، وقيل : منصوب على الحال بتأوله باسم الفاعل. وقرأ أبو حيوة الشامي تنزيل بالرفع على معنى هذا تنزيل ؛ وممن خلق متعلّق بتنزيلا ؛ أو بمحذوف هو صفة له ؛ وتخصيص خلق الأرض والسموات لكونهما أعظم ما يشاهده العباد من مخلوقاته عزوجل ، والعلا : جمع العليا ، أي : المرتفعة ، كجمع كبرى وصغرى على كبر وصغر. ومعنى الآية إخبار العباد عن كمال عظمته سبحانه وعظيم جلاله ، وارتفاع (الرَّحْمنُ) على أنه خبر مبتدأ محذوف كما قال الأخفش ، ويجوز أن يكون مرتفعا على المدح أو على الابتداء. وقرئ بالجر ، قال الزجاج : على البدل من «ممن» ، وجوّز النحاس أن يكون مرتفعا على البدل من المضمر في خلق ، وجملة (عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) في محل رفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف ، أو على أنها خبر الرحمن عند من جعله مبتدأ. قال أحمد بن يحيى : قال ثعلب : الاستواء : الإقبال على الشيء ، وكذا قال الزجّاج والفرّاء. وقيل : هو كناية عن الملك والسلطان ، والبحث في تحقيق هذا يطول ، وقد تقدّم البحث عنه في الأعراف. والذي ذهب إليه أبو الحسن الأشعري أنه سبحانه مستو على عرشه بغير حدّ ولا كيف ، وإلى هذا القول سبقه الجماهير من السلف الصالح الذي يقرّون الصفات كما وردت من دون تحريف ولا تأويل (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي : أنه مالك كل شيء ومدبّره (وَما بَيْنَهُما) من الموجودات (وَما تَحْتَ الثَّرى) الثرى في اللغة : التراب
__________________
(١). الكهف : ٦.