الكلاب ، وتنوب عن الرمح في الطعان ، وعن السيف عند منازلة الأقران ، ورثتها عن أبي ، وأورّثها بعدي بنيّ ، انتهى.
وقد وقفت على مصنّف في مجلد لطيف في منافع العصا لبعض المتأخرين ، وذكر فيه أخبارا وأشعارا وفوائد لطيفة ونكتا رشيقة. وقد جمع الله سبحانه لموسى في عصاه من البراهين العظام والآيات الجسام ما أمن به من كيد السحرة ومعرّة المعاندين ، واتخذها سليمان لخطبته وموعظته وطول صلاته ، وكان ابن مسعود صاحب عصا النبي صلىاللهعليهوسلم وعنزته (١) ، وكان يخطب بالقضيب وكذلك الخلفاء من بعده ، وكان عادة العرب العرباء أخذ العصا والاعتماد عليها عند الكلام ، وفي المحافل والخطب ، (قالَ أَلْقِها يا مُوسى) هذه جملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، أمره سبحانه بإلقائها ليريه ما جعل له فيها من المعجزة الظاهرة (فَأَلْقاها) موسى على الأرض (فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) وذلك بقلب الله سبحانه لأوصافها وأعراضها حتى صارت حية تسعى ، أي : تمشي بسرعة وخفة ، قيل : كانت عصا ذات شعبتين ، فصار الشعبتان فما وباقيها جسم حية ، تنتقل من مكان إلى مكان ، وتلتقم الحجارة مع عظم جرمها وفظاعة منظرها ، فلما رآها كذلك خاف وفزع وولى مدبرا ولم يعقب ، فعند ذلك (قالَ) سبحانه (خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) قال الأخفش والزجاج : التقدير إلى سيرتها ، مثل : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) (٢) قال : ويجوز أن يكون مصدرا ؛ لأن معنى سنعيدها : سنسيرها ، ويجوز أن يكون المصدر بمعنى اسم الفاعل ، أي : سائرة ، أو بمعنى اسم المفعول ، أي : مسيرة. والمعنى : سنعيدها بعد أخذك لها إلى حالتها الأولى التي هي العصوية. قيل : إنه لما قيل له لا تخف بلغ من عدم الخوف إلى أن كان يدخل يده في فمها ويأخذ بلحيها (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) قال الفرّاء والزّجّاج : جناح الإنسان عضده ، وقال قطرب : جناح الإنسان جنبه ، وعبّر عن الجنب بالجناح لأنه في محل الجناح ، وقيل : إلى بمعنى مع ، أي : مع جناحك ، وجواب الأمر (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) أي : تخرج يدك حال كونها بيضاء ، ومحل (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) النصب على الحال ، أي : كائنة من غير سوء ، والسوء العيب ، كنى به عن البرص ، أي : تخرج بيضاء ساطعا نورها تضيء بالليل والنهار كضوء الشمس من غير برص ، وانتصاب (آيَةً أُخْرى) على الحال أيضا ؛ أي : معجزة أخرى غير العصا. وقال الأخفش : إن آية منتصبة على أنها بدل من بيضاء. قال النحّاس : وهو قول حسن. وقال الزجّاج : المعنى آتيناك أو نؤتيك آية أخرى ، لأنه لما قال : (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) دلّ على أنه قد آتاه آية أخرى ، ثم علّل سبحانه ذلك بقوله : (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) قيل : والتقدير : فعلنا ذلك لنريك ، و «من آياتنا» متعلّق بمحذوف وقع حالا ، والكبرى : معناها العظمى ، وهو صفة لموصوف محذوف ، والتقدير : لنريك من آياتنا الآية الكبرى ، أي : لنريك بهاتين الآيتين يعني اليد والعصا بعض آياتنا الكبرى ، فلا يلزم أن تكون اليد هي الآية الكبرى وحدها حتى تكون أعظم من العصا ، فيرد على ذلك أنه لم يكن في اليد إلا تغير اللون فقط ، بخلاف العصا ؛ فإن فيها مع تغير اللون الزيادة في الحجم ، وخلق الحياة ، والقدرة على الأمور الخارقة. ثم صرّح سبحانه بالغرض
__________________
(١). «العنزة» : مثل نصف الرمح أو أكبر قليلا ، وفيها سنان مثل سنان الرمح.
(٢). الأعراف : ١٥٥.