تحزن أنت يا موسى بفقد إشفاقها ، وهو تعسّف (وَقَتَلْتَ نَفْساً) المراد بالنفس هنا : نفس القبطي الذي وكزه موسى فقضى عليه ، وكان قتله له خطأ (فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ) أي : الغمّ الحاصل معك من قتله خوفا من العقوبة الأخروية أو الدنيوية أو منهما جميعا ؛ وقيل : الغمّ هو القتل بلغة قريش ، وما أبعد هذا! (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) الفتنة تكون بمعنى المحنة ، وبمعنى الأمر الشاقّ ، وكلّ ما يبتلى به الإنسان ، والفتون يجوز أن يكون مصدرا كالثبور والشكور والكفور ، أي : ابتليناك ابتلاء ، واختبرناك اختبارا ، ويجوز أن يكون جمع فتنة على ترك الاعتداد بتاء التأنيث كحجور في حجرة ، وبدور في بدرة ، أي : خلصناك مرّة بعد مرّة مما وقعت فيه من المحن التي سبق ذكرها قبل أن يصطفيه الله لرسالته ، ولعلّ المقصود بذكر تنجيته من الغمّ الحاصل له بذلك السبب ، وتنجيته من المحن هو الامتنان عليه بصنع الله سبحانه له ، وتقوية قلبه عند ملاقاة ما سيقع له من ذلك مع فرعون وبني إسرائيل (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) قال الفرّاء : تقدير الكلام وفتناك فتونا ، فخرجت إلى أهل مدين فلبثت سنين ، ومثل هذا الحذف كثير في التنزيل ، وكذا في كلام العرب فإنهم يحذفون كثيرا من الكلام إذا كان المعنى معروفا ، ومدين : هي بلد شعيب ، وكانت على ثماني مراحل من مصر ؛ هرب إليها موسى فأقام بها عشر سنين ، وهي أتمّ الأجلين ؛ وقيل : أقام عند شعيب ثمان وعشرين سنة ؛ منها عشر مهر امرأته ابنة شعيب ، ومنها ثماني عشرة سنة بقي فيها عنده حتى ولد له ، والفاء في «فلبثت» تدل على أن المراد بالمحن المذكورة هي ما كان قبل لبثه في أهل مدين (ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) أي : في وقت سبق في قضائي وقدري أن أكلمك وأجعلك نبيا ، أو على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء ، وهو رأس أربعين سنة ، أو على موعد قد عرفته بإخبار شعيب لك به. قال الشاعر :
نال الخلافة إذ كانت له قدرا |
|
كما أتى ربّه موسى على قدر |
وكلمة (ثُمَ) المفيدة للتراخي للدلالة على أن مجيئه عليهالسلام كان بعد مدّة ، وذلك بسبب ما وقع له من ضلال الطريق وتفرّق غنمه ونحو ذلك (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) الاصطناع : اتخاذ الصنعة ، وهي الخير تسديه إلى إنسان ، والمعنى : اصطنعتك لوحيي ورسالتي لتتصرّف على إرادتي. قال الزجاج : تأويله اخترتك لإقامة حجتي ، وجعلتك بيني وبين خلقي ، وصرت بالتبليغ عني بالمنزلة التي أكون أنا بها لو خاطبتهم واحتججت عليهم. قيل : وهو تمثيل لما خوّله الله سبحانه من الكرامة العظمى بتقريب الملك لبعض خواصّه (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ) أي : وليذهب أخوك ، وهو كلام مستأنف مسوق لبيان ما هو المقصود من الاصطناع. ومعنى (بِآياتِي) بمعجزاتي التي جعلتها لك آية ، وهي التسع الآيات (وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي) أي : لا تضعفا ولا تفترا ، يقال : وني يني ونيا ؛ إذا ضعف. قال الشاعر (١) :
فما ونى محمّد مذ أن غفر |
|
له الإله ما مضى وما غبر |
__________________
(١). هو العجاج.