الأولى التوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب المنزلة ، وفيها التصريح بنبوّته والتبشير به ، وذلك يكفي ، فإن هذه الكتب المنزلة هم معترفون بصدقها وصحتها ، وفيها ما يدفع إنكارهم لنبوّته ، ويبطل تعنّتاتهم وتعسّفاتهم. وقيل : المعنى : أو لم يأتهم إهلاكنا للأمم الذين كفروا واقترحوا الآيات ، فما يؤمنهم إن أتتهم الآيات التي اقترحوها أن يكون حالهم كحالهم. وقيل : المراد أو لم تأتهم آية هي أمّ الآيات وأعظمها في باب الإعجاز يعني القرآن ، فإنه برهان لما في سائر الكتب المنزلة. وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وأبو عمرو ويعقوب وابن أبي إسحاق وحفص (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ) بالتاء الفوقية ، وقرأ الباقون بالتحتية ؛ لأن معنى البينة البيان والبرهان ، فذكروا الفعل اعتبارا بمعنى البينة ، واختار هذه القراءة ابن عبيد وأبو حاتم. قال الكسائي : ويجوز «بينة» بالتنوين. قال النحاس : إذا نوّنت بينة ورفعت جعلت «ما» بدلا منها ، وإذا نصبت فعلى الحال. والمعنى : أو لم يأتهم ما في الصحف الأولى مبيّنا ، وهذا على ما يقتضيه الجواز النحوي وإن لم تقع القراءة به (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ) أي : من قبل بعثة محمد صلىاللهعليهوسلم ، أو من قبل إتيان البينة لنزول القرآن (لَقالُوا) يوم القيامة (رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) أي : هلّا أرسلت إلينا رسولا في الدنيا (فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) التي يأتي بها الرسول (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَ) بالعذاب في الدنيا (وَنَخْزى) بدخول النار ، وقرئ (نَذِلَّ ، وَنَخْزى) على البناء للمفعول ، وقد قطع الله معذرة هؤلاء الكفرة بإرسال الرسول إليهم قبل إهلاكهم ، ولهذا حكى الله عنهم أنهم : (قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) (١). (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا) أي : قل لهم يا محمد كل واحد منا ومنكم متربّص ، أي : منتظر لما يؤول إليه الأمر ، فتربصوا أنتم (فَسَتَعْلَمُونَ) عن قريب (مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِ) أي : فستعلمون بالنصر والعاقبة من هو من أصحاب الصراط المستقيم (وَمَنِ اهْتَدى) من الضلالة ونزع عن الغواية ، و «من» في الموضعين في محل رفع بالابتداء. قال النحاس : والفراء يذهب إلى أن معنى (مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِ) من لم يضلّ ، وإلى أن معنى (مَنِ اهْتَدى) من ضلّ ثم اهتدى ، وقيل : «من» في الموضعين في محل نصب ، وكذا قال الفراء. وحكي عن الزجّاج أنه قال : هذا خطأ ؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. وقرأ أبو رافع «فسوف تعلمون» ، وقرأ يحيى بن يعمر وعاصم الجحدري (السَّوِيِ) على فعلى ، وردّت هذه القراءة بأن تأنيث الصراط شاذ ، وقيل : هي بمعنى الوسط والعدل ، اه.
وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) ألم نبين لهم (كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) نحو عاد وثمود ومن أهلك من الأمم ، وفي قوله : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى) يقول : هذا من مقاديم الكلام ، يقول : لو لا كلمة وأجل مسمى لكان لزاما. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي نحوه. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال : الأجل المسمّى : الكلمة التي سبقت من ربك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (لَكانَ لِزاماً) قال : موتا. وأخرج الفريابي وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : (وَسَبِّحْ
__________________
(١). الملك : ٩.