جرى على الأمم المكذّبة ، فقال : (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً كَمْ) في محل نصب على أنها مفعول قصمنا ، وهي الخبرية المفيدة للتكثير ، والقصم : كسر الشيء ودقّه ، يقال : قصمت ظهر فلان إذا كسرته ، وانقصمت سنّه إذا انكسرت. والمعنى هنا : الإهلاك والعذاب ، وأما الفصم بالفاء فهو الصدع في الشيء من غير بينونة ، وجملة (كانَتْ ظالِمَةً) في محل جرّ صفة لقرية ، وفي الكلام مضاف محذوف ، أي : وكم قصمنا من أهل قرية كانوا ظالمين ، أي : كافرين بالله مكذّبين بآياته ، والظلم في الأصل : وضع الشيء في غير موضعه ، وهم وضعوا الكفر في موضع الإيمان (وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ) أي : أوجدنا وأحدثنا بعد إهلاك أهلها قوما ليسوا منهم (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا) أي : أدركوا ، أو رأوا عذابنا ، وقال الأخفش : خافوا وتوقّعوا ، والبأس : العذاب الشديد. (إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) الركض : الفرار والهرب والانهزام ، وأصله من ركض الرجل الدابة برجليه ، يقال : ركض الفرس إذا كدّه بساقيه ، ثم كثر حتى قيل : ركض الفرس إذا عدا ، ومنه : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) (١). والمعنى : أنهم يهربون منها راكضين دوابهم ، فقيل لهم : (لا تَرْكُضُوا) أي : لا تهربوا. قيل : إن الملائكة نادتهم بذلك عند فرارهم. وقيل : إن القائل لهم ذلك هم من هنالك من المؤمنين استهزاء بهم وسخرية منهم (وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) أي : إلى نعمكم التي كانت سبب بطركم وكفركم ، والمترف : المنعم ، يقال : أترف على فلان ، أي : وسّع عليه في معاشه. (وَمَساكِنِكُمْ) أي : وارجعوا إلى مساكنكم التي كنتم تسكنونها وتفتخرون بها (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) أي : تقصدون للسؤال والتشاور والتدبير في المهمات ، وهذا على طريقة التهكّم بهم والتوبيخ لهم. وقيل : المعنى : لعلكم تسألون عمّا نزل بكم من العقوبة فتخبرون به. وقيل : لعلكم تسألون أن تؤمنوا كما كنتم تسألون ذلك قبل نزول العذاب بكم. قال المفسرون وأهل الأخبار : إنّ المراد بهذه الآية أهل حضور من اليمن ، وكان الله سبحانه قد بعث إليهم نبيا اسمه شعيب بن مهدم ، وقبره بجبل من جبال اليمن يقال له ضين ، وبينه وبين حضور نحو يريد ، قالوا : وليس هو شعيبا صاحب مدين. قلت : وآثار القبر بجبل ضين موجودة ، وو العامة من أهل تلك الناحية يزعمون أنه قبر قدم بن قادم (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أي : قالوا لما قالت لهم الملائكة لا تركضوا : يا ويلنا ، أي : بإهلاكنا إنّا كنّا ظالمين لأنفسنا ، مستوجبين العذاب بما قدّمنا ، فاعترفوا على أنفسهم بالظّلم الموجب للعذاب (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ) أي : ما زالت هذه الكلمة دعواهم ، أي : دعوتهم ، والكلمة : هي قولهم يا ويلنا ، أي : يدعون بها ويردّدونها (حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً) أي : بالسيوف كما يحصد الزرع بالمنجل ، والحصيد هنا بمعنى المحصود ، ومعنى (خامِدِينَ) أنهم ميتون ، من خمدت إذا طفئت ، فشبّه خمود الحياة بخمود النار ، كما يقال لمن مات قد طفئ (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) أي : لم نخلقهما عبثا ولا باطلا ، بل للتنبيه على أن لهما خالقا قادرا يجب امتثال أمره ، وفيه إشارة إجمالية إلى تكوين العالم ، والمراد بما بينهما سائر المخلوقات الكائنة بين السماء والأرض على اختلاف أنواعها وتباين أجناسها (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) اللهو : ما يتلهّى به ، قيل : اللهو ، الزوجة والولد ،
__________________
(١). ص : ٤٢.