من الصحابة ، وهم أعرف من غيرهم بأسباب النزول. وقد ثبت في الصحيح أيضا عن عليّ أنه قال : فينا نزلت هذه الآية. وقرأ ابن كثير «هذانّ» بتشديد النون ، وقال سبحانه : (اخْتَصَمُوا) ولم يقل اختصما. قال الفراء : لأنهم جمع ، ولو قال اختصما لجاز ، ومعنى (فِي رَبِّهِمْ) في شأن ربهم ، أي : في دينه ، أو في ذاته ، أو في صفاته ، أو في شريعته لعباده ، أو في جميع ذلك. ثم فصّل سبحانه ما أجمله في قوله : (يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) فقال : (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) قال الأزهري : أي سوّيت وجعلت لبوسا لهم ، شبّهت النار بالثياب لأنها مشتملة عليهم كاشتمال الثياب ، وعبّر بالماضي عن المستقبل تنبيها على تحقّق وقوعه. وقيل : إن هذه الثياب من نحاس قد أذيب فصار كالنار ، وهي السرابيل المذكورة في آية أخرى. وقيل : المعنى في الآية : أحاطت النّار بهم. وقرئ «قطعت» بالتخفيف. ثم قال سبحانه : (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) والحميم : هو الماء الحار المغلي بنار جهنم ، والجملة مستأنفة أو هي خبر ثان للموصول (يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ) الصّهر : الإذابة ، والصّهارة : ما ذاب منه ، يقال : صهرت الشيء فانصهر ، أي : أذابته فذاب ، فهو صهير ، والمعنى : أنه يذاب بذلك الحميم ما في بطونهم من الأمعاء والأحشاء (وَالْجُلُودُ) معطوفة على ما ، أي : ويصهر به الجلود ، والجملة في محل نصب على الحال ، وقيل : إن الجلود لا تذاب ، بل تحرق ، فيقدّر فعل يناسب ذلك ، ويقال : وتحرق به الجلود ، كما في قول الشاعر :
علفتها تبنا وماء باردا (١)
أي : وسقيتها ماء. ولا يخفى أنه لا ملجئ لهذا ، فإن الحميم إذا كان يذيب ما في البطون فإذابته للجلد الظاهر بالأولى (وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) المقامع : جمع مقمعة ومقمع ، قمعته : ضربته بالمقمعة ، وهي قطعة من حديد. والمعنى : لهم مقامع من حديد يضربون بها ، أي : للكفرة ، وسميت المقامع مقامع لأنها تقمع المضروب ، أي : تذلله. قال ابن السّكّيت : أقمعت الرجل عني إقماعا ؛ إذا اطلع عليك فرددته عنك. (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها) أي : من النار (أُعِيدُوا فِيها) أي : في النار بالضرب بالمقامع ، و (مِنْ غَمٍ) بدل من الضمير في «منها» بإعادة الجارّ أو مفعول له ، أي : لأجل غمّ شديد من غموم النار. (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) هو بتقدير القول ، أي : أعيدوا فيها ، وقيل لهم : ذوقوا عذاب الحريق ، أي : العذاب المحرق ، وأصل الحريق الاسم من الاحتراق ، تحرّق الشيء بالنار واحترق حرقة واحتراقا ، والذّوق مماسّة يحصل معها إدراك الطعم ، وهو هنا توسع ، والمراد به إدراك الألم. قال الزجاج : وهذا لأحد الخصمين. وقال في الخصم الآخر وهم المؤمنون (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) فبيّن سبحانه حال المؤمنين بعد بيانه لحال الكافرين. ثم بيّن الله سبحانه بعض ما أعدّه لهم من النعيم بعد دخولهم الجنة فقال : (يُحَلَّوْنَ فِيها) قرأ الجمهور يحلون بالتشديد والبناء للمفعول ، وقرئ مخففا ، أي : يحليهم الله أو الملائكة بأمره. و «من» في قوله : (مِنْ أَساوِرَ) للتبعيض ، أي : يحلون بعض أساور ،
__________________
(١). وعجزه : حتى شتت همّالة عيناها.