مخصوصة (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) أي : أنبت الله سبحانه على كلّ عظم لحما على المقدار الذي يليق به ويناسبه (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) أي : نفخنا فيه الروح بعد أن كان جمادا ، وقيل : أخرجناه إلى الدنيا ، وقيل : هو نبات الشعر ، وقيل : خروج الأسنان ، وقيل : تكميل القوى المخلوقة فيه ، ولا مانع من إرادة الجميع ، والمجيء بثم لكمال التفاوت بين الخلقين (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) أي : استحقّ التعظيم والثناء. وقيل : مأخوذ من البركة ، أي : كثر خيره وبركته. والخلق في اللغة : التقدير ، يقال : خلقت الأديم ؛ إذا قسته لتقطع منه شيئا ، فمعنى أحسن الخالقين : أتقن الصانعين المقدّرين ، ومنه قول الشاعر (١) :
ولأنت تفري ما خلقت وبع |
|
ض القوم يخلق ثم لا يفري |
(ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ) الإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى الأمور المتقدّمة ، أي : ثم إنكم بعد تلك الأمور لميتون صائرون إلى الموت لا محالة (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) من قبوركم إلى المحشر للحساب والعقاب. واللام في (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) جواب لقسم محذوف ، والجملة مبتدأة مشتملة على بيان خلق ما يحتاجون إليه بعد بيان خلقهم ، والطرائق : هي السماوات. قال الخليلي والفرّاء والزّجاج : سمّيت طرائق لأنه طورق بعضها فوق بعض كمطارقة النعل. قال أبو عبيدة : طارقت الشيء جعلت بعضه فوق بعض ، والعرب تسمّي كل شيء فوق شيء طريقة. وقيل : لأنها طرائق الملائكة ، وقيل : لأنها طرائق الكواكب. (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) المراد بالخلق هنا المخلوق ، أي : وما كنّا عن هذه السبع الطرائق وحفظها عن أن تقع على الأرض بغافلين. وقال أكثر المفسرين : المراد الخلق كلهم بغافلين ، بل حفظنا السماوات عن أن تسقط ، وحفظنا من في الأرض أن تسقط السماء عليهم فتهلكهم أو تميد بهم الأرض ، أو يهلكون بسبب من الأسباب المستأصلة لهم ، ويجوز أن يراد نفي الغفلة عن القيام بمصالحهم وما يعيشون به ، ونفي الغفلة عن حفظهم (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) هذا من جملة ما امتنّ الله سبحانه به على خلقه ، والمراد بالماء ماء المطر ، فإن به حياة الأرض وما فيها من الحيوان ، ومن جملة ذلك ماء الأنهار النازلة من السماء والعيون ، والآبار المستخرجة من الأرض ، فإنّ أصلها من ماء السماء. وقيل : أراد سبحانه في هذه الآية الأنهار الأربعة : سيحان ، وجيحان ، والفرات ، والنيل ، ولا وجه لهذا التخصيص. وقيل : المراد به الماء العذب ، ولا وجه لذلك أيضا فليس في الأرض ماء إلا وهو من السماء. ومعنى (بِقَدَرٍ) بتقدير منا أو بمقدار يكون به صلاح الزرع والثمار ، فإنه لو كثر لكان به هلاك ذلك ، ومثله قوله سبحانه (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) ومعنى (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) جعلناه مستقرّا فيها ينتفعون به وقت حاجتهم إليه ، كالماء الذي يبقى في المستنقعات والغدران ونحوها (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) أي : كما قدرنا على إنزاله فنحن قادرون على أن نذهب به بوجه من الوجوه ، ولهذا التنكير حسن موقع لا يخفى ، وفي هذا تهديد شديد لما يدلّ عليه من قدرته سبحانه على إذهابه وتغويره حتى يهلك الناس بالعطش وتهلك مواشيهم ، ومثله قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) (٢). ثم بيّن سبحانه ما يتسبّب عن إنزال الماء
__________________
(١). هو زهير بن أبي سلمى.
(٢). الملك : ٣٠.