بينهما متباعد جدّا كالتباعد الذي بين الماء والزبد ، وبين الخبث والخالص من تلك الأجسام ، ثم بيّن سبحانه أنه إنما يقف على تفاوت المنزلتين ، وتباين الرتبتين أهل العقول الصحيحة ، فقال : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) ثم وصفهم بهذه الأوصاف المادحة ، فقال : (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ) أي بما عقدوه من العهود فيما بينهم وبين ربهم ، أو فيما بينهم وبين العباد (وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) الذي وثقوه على أنفسهم ، وأكّدوه بالأيمان ونحوها ، وهذا تعميم بعد التخصيص ، لأنه يدخل تحت الميثاق كل ما أوجبه العبد على نفسه كالنذور ونحوها ، ويحتمل أن يكون الأمر بالعكس فيكون من التخصيص بعد التعميم على أن يراد بالعهد جميع عهود الله ، وهي أوامره ونواهيه التي وصّى بها عبيده ، ويدخل في ذلك الالتزامات التي يلزم بها العبد نفسه ، ويراد بالميثاق ما أخذه الله على عباده حين أخرجهم من صلب آدم في عالم الذرّ المذكور في قوله سبحانه : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) (١) الآية. (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) ظاهره شمول كلّ ما أمر الله بصلته ، ونهى عن قطعه من حقوق الله وحقوق عباده ، ويدخل تحت ذلك صلة الأرحام دخولا أوّليا ، وقد قصره كثير من المفسرين على صلة الرحم ، واللفظ أوسع من ذلك (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) خشية تحملهم على فعل ما وجب ، واجتناب ما لا يحلّ (وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) وهو الاستقصاء فيه والمناقشة للعبد ، فمن نوقش الحساب عذّب ، ومن حقّ هذه الخيفة أن يحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) قيل : هو كلام مستأنف ، وقيل : معطوف على ما قبله والتعبير عنه بلفظ المضيّ للتنبيه على أنه ينبغي تحققه ، والمراد بالصبر الصبر على الإتيان بما أمر الله به ، واجتناب ما نهى عنه ؛ وقيل : على الرزايا والمصائب ، ومعنى كون ذلك الصبر لابتغاء وجه الله ؛ أن يكون خالصا له ، لا شائبة فيه لغيره (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي فعلوها في أوقاتها على ما شرعه الله سبحانه في أذكارها وأركانها مع الخشوع والإخلاص ، والمراد بها الصلوات المفروضة ، وقيل : أعمّ من ذلك (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) أي أنفقوا بعض ما رزقناهم ، والمراد بالسرّ : صدقة النفل ، والعلانية : صدقة الفرض ؛ وقيل : السرّ لمن لم يعرف بالمال ، أو لا يتهم بترك الزكاة ، والعلانية لمن كان يعرف بالمال أو يتهم بترك الزكاة (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي يدفعون سيئة من أساء إليهم بالإحسان إليه كما في قوله تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (٢) ، أو يدفعون بالعمل الصالح العمل السيئ ، أو يدفعون الشرّ بالخير ، أو المنكر بالمعروف ، أو الظلم بالعفو ، أو الذنب بالتوبة ، ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه الأمور ، والإشارة بقوله : (أُولئِكَ) إلى الموصوفين بالصفات المتقدّمة (لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) العقبى مصدر كالعاقبة ؛ والمراد بالدار الدنيا ، وعقباها الجنة ؛ وقيل : المراد بالدار : الدار الآخرة ، وعقباها الجنة للمطيعين ، والنار للعصاة (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) بدل من عقبى الدار ، أي : لهم جنات عدن ، ويجوز أن يكون مبتدأ ، وخبره يدخلونها ، والعدن أصله الإقامة ، ثم صار علما لجنة من الجنان. قال القشيري : وجنات عدن : وسط الجنة وقصبتها ، وسقفها عرش الرحمن ، ولكن في صحيح البخاري وغيره : «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة ، وأعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تفجر أنهار الجنة».
__________________
(١). الأعراف : ١٧٢.
(٢). فصلت : ٣٤.