فإن قيل : لم لم يعد ذكر المنّ فيقول : يتبعها منّ أو أذى؟ أجيب : بأنّ الأذى يشمل المنّ وغيره ، كما تقرّر وإنما نصّ عليه فيما مرّ لكثرة وقوعه من المتصدّقين ، وعسر تحفظهم منه ، ولذلك قدّم على الأذى قال بعضهم : الآية واردة في صدقة التطوّع ؛ لأنّ الواجب لا يحل منعه ويحتمل أن يراد بها الواجب ، فإنه قد يعدل به عن سائل إلى سائل ، وعن نفر ، إلى نفر وإنما صحّ الابتداء بالنكرة وهي قول لاختصاصها بالصفة وهي معروف ، وأمّا المعطوف وهو مغفرة فلا يحتاج إلى مخصص لتبعيتها (وَاللهُ غَنِيٌ) عن صدقة العباد ، وإنما أمرهم ليثيبهم عليها (حَلِيمٌ) بتأخير العقوبة عن المانّ والمؤذي بصدقته.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ) أي : أجورها لأنّ الصدقة وقعت فلا يصح أن تبطل (بِالْمَنِّ وَالْأَذى.)
فإن قيل : ظاهر هذا اللفظ أنّ مجموع المنّ والأذى يبطلان الأجر فيلزم أنه لو وجد أحدهما دون الآخر ، لا يبطل الأجر ، أجيب : بأنّ الشرط أن لا يوجد واحد منهما دون الآخر لأنّ قوله تعالى : (ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا) ولا أذى يقتضي أن لا يقع هذا ولا هذا أي : فتبطل لكل واحد منهما إبطالا.
(كَالَّذِي) أي : كإبطال أجر نفقة الذي (يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ) أي : مرائيا لهم ، ليروا نفقته ، ويقولون : إنه كريم سخي (وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وهو المنافق لأنّ الكافر معلن بكفره غير مراء (فَمَثَلُهُ) أي : هذا المرائي في إنفاقه (كَمَثَلِ صَفْوانٍ) وهو الحجر الأملس (عَلَيْهِ) أي : استقرّ عليه (تُرابٌ) والتراب معروف وهو اسم جنس لا يثنى ولا يجمع. وقال المبرد : هو جمع واحده ترابة ، وفائدة هذا الخلاف أنه لو قال لزوجته : أنت طالق عدد التراب أنه يقع عليه طلقة على الأوّل وهو الأصح وثلاث على الثاني (فَأَصابَهُ وابِلٌ) وهو المطر الشديد العظيم القطر (فَتَرَكَهُ صَلْداً) أي : أملس نقيا من التراب وقوله تعالى : (لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) استئناف لبيان مثل المنافق المنفق رياء أي : لا يجدون له ثوابا في الآخرة كما لا يوجد على الصفوان شيء من التراب الذي كان عليه لإذهاب المطر له.
فإن قيل : كيف قال تعالى لا يقدرون بعد قوله كالذي ينفق؟ أجيب : بأنه تعالى أراد بالذي ينفق الجنس أو الفريق الذي ينفق ولأن من والذي يتعاقبان فكأنه قيل كمن ينفق وقد ورد عنه صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا : يا رسول الله وما الشرك الأصغر؟ قال :
الرياء يقول الله تعالى لهم يوم يجازي العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء» (١) وروى أبو هريرة : «أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم حدثه أن الله تعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ـ أي : أمره ـ ليقضي بينهم وكل أمة جاثية وأوّل من يدعى به رجل جمع القرآن ورجل قتل في سبيل الله ورجل كثير المال فيقول الله تعالى للقارىء : ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال : بلى قال : فماذا عملت فيما علمت؟ قال : كنت أقوم به آناء الليل وأناء النهار فيقول الله تعالى : كذبت وتقول الملائكة : كذبت ويقول الله : بل أردت أن يقال فلان قارىء ، وقد قيل ، ويؤتى بصاحب المال فيقول الله : ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال :
__________________
(١) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ٢٢٨ ، ٢٢٩ ، والسيوطي في الدر المنثور ٤ / ٢٥٦ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ١٠ / ١٠٢ ، ٢٢٢.