جزائكم ومحاسبتكم وقوله تعالى :
(آمَنَ) أي : صدق (الرَّسُولُ) أي : محمد صلىاللهعليهوسلم (بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) أي : من القرآن فيه شهادة وتنصيص من الله تعالى على صحة إيمانه والاعتداد به وأنه جازم في أمره غير شاك فيه وقوله تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ) عطف على الرسول (كُلٌ) من الرسول والمؤمنين. واختلف في تنوين كل فقيل تنوين عوض من المضاف إليه وقيل : تنوين التمكين قال الشيخ خالد الوقاد : وهو الأصح (آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ) وقرأ (وَكُتُبِهِ) حمزة والكسائي بكسر الكاف وفتح التاء وألف بعدها على التوحيد على أنّ المراد به الجنس ، والباقون بضم الكاف والتاء على الجمع (وَرُسُلِهِ) يقولون (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ) أي : جمع (مِنْ رُسُلِهِ) فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعل اليهود والنصارى ، فأحد : اسم لمن يصلح أن يخاطب يستوي فيه الواحد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث فحيث أضيف بين إليه أو أعيد ضمير جمع إليه أو نحو ذلك ، فالمراد به جمع من الجنس الذي يدلّ الكلام عليه ، ويجوز أن يقدر القول مفردا باعتبار كل وإنما احتيج إلى التقدير لأجل قوله تعالى : (لا نُفَرِّقُ) ولو قال تعالى : لا يفرقون لم يحتج إلى ذلك (وَقالُوا سَمِعْنا) أي : أمرنا به سماع قبول (وَأَطَعْنا) أمرك نسألك (غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أي : المرجع بعد الموت وهو إقرار منهم بالبعث.
روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال : لما أنزل الله على رسوله صلىاللهعليهوسلم (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) الآية قال : فاشتدّ على أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ثم بركوا على الركب وقالوا : أي رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير» (١). فلما قرأها القوم وذلت ألسنتهم أنزل الله تعالى في أثرها : (آمَنَ الرَّسُولُ) الآية ، فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى بقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي : ما تسعه قدرتها وإن شق فضلا ورحمة (لَها ما كَسَبَتْ) من الخير أي : ثوابه (وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) من الشر أي : وزره فلا ينتفع بطاعتها غيرها ولا يؤاخذ أحد بذنب أحد ولا بما لم يكتسبه مما وسوست به نفسه كما يفيده تقديم الخبر وهو لها وعليها من الحصر ، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ الله تجاوز عن أمّتي ما وسوست به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به» (٢).
فإن قيل : لم خص الخير بالكسب والشرّ بالاكتساب؟ أجيب : بأنّ في الاكتساب اعتمالا أي : اضطرابا في العمل مبالغة واجتهادا ، فلما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة إليه وأمارة به كانت أشدّ حبا واجتهادا في تحصيله وأعملت فجعلت لذلك مكتسبة فيه ولما لم تكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال قولوا (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا) أي : لا تعاقبنا (إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) أي : بما أدّى بنا إلى النسيان أو الخطأ من تفريط وقلة مبالاة ؛ لأنّ المؤاخذة إنما هي بالمقدور والنسيان والخطأ ليس بمقدورين ويجوز أن يراد نفس النسيان والخطأ أي : لا تؤاخذنا
__________________
(١) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ١٢٥.
(٢) أخرجه البخاري في العتق حديث ٢٥٢٨ ، والنسائي في الطلاق حديث ٣٤٣٤.