الضلال إلى الهدى ، ومن الظلمة إلى النور فقرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم هذه الآية فقال أهل الكتاب : أسلمنا ، فقال لليهود : «أتشهدون أنّ عيسى كلمة الله وعبده ورسوله؟ فقالوا : معاذ الله. وقال للنصارى : أتشهدون أن عيسى عبد الله ورسوله فقالوا : معاذ الله أن يكون عيسى عبدا» فقال عزوجل (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي : عن الإسلام لم يضرّوك (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) أي : فإنك رسول منبه ما عليك إلا أن تبلغ الرسالة وتنبه على طريق الهدى وقد بلغت وليس إليك الهداية (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) أي : عالم بمن يؤمن ، وبمن لا يؤمن فيجازي كلا منهم بعمله ، وهذا قبل الأمر بالقتال.
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ) أي : بالعدل (مِنَ النَّاسِ) وهم اليهود قتل أوّلهم الأنبياء وقتلوا أتباعهم ، ومن في عصره صلىاللهعليهوسلم كفروا به وقصدوا قتله صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين لكن الله تعالى عصمهم.
وعن أبي عبيدة بن الجرّاح قلت : «يا رسول الله أي الناس أشدّ عذابا يوم القيامة؟ قال رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بمعروف ونهى عن منكر» (١). وروي أنهم قتلوا ثلاثة وأربعين نبيا فنهاهم مائة وسبعون من عبادهم فقتلوهم من يومهم وخبر إن (فَبَشِّرْهُمْ) أي : أعلمهم (بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي : مؤلم وذكر البشارة تهكم بهم.
فإن قيل : لم أدخل الفاء في خبر إن مع أنه لا يقال أن زيدا فقائم أجيب : بأن الموصول متضمن معنى الشرط فكأنه قيل : الذين يكفرون فبشرهم بمعنى من يكفر فبشرهم.
(أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي : ما عملوه من خير كصدقة وصلة رحم (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) فلا يعتدّ بها لعدم شرطها (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي : مانعين عنهم العذاب.
(أَلَمْ تَرَ) أي : تنظر (إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً) أي : حظا (مِنَ الْكِتابِ) أي : التوراة أو جنس الكتب السماوية ومن للتبعيض أو البيان ، قال البيضاوي : وتنكير النصيب يحتمل التعظيم والتحقير انتهى. أمّا التعظيم فظاهر وهو ما اقتصر عليه الزمخشريّ ، وأمّا التحقير ففيه نظر إذ النصيب المراد به الكتاب أو بعضه لا حقارة فيه وقد يقال : إن تحقيره بالنسبة إليهم حيث لم يعملوا به (يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) الداعي هو محمد صلىاللهعليهوسلم وكتاب الله القرآن أو التوراة واختلفوا في سبب نزول هذه الآية ، فروى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «دخل رسول الله صلىاللهعليهوسلم بيت المدارس ـ أي : موضع صاحب دراسة كتبهم ـ على جماعة من اليهود فدعاهم إلى الله عزوجل فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد : على أي دين أنت؟ قال : دين إبراهيم فقالا له : إن إبراهيم كان يهوديا ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم فأبيا عليه فأنزل الله عزوجل هذه الآية».
وروى الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أنّ رجلا وامرأة من أهل خيبر زنيا وكان في كتابهم الرجم فكرهوا رجمهما لشرفهما فيهم فرفعوا أمرهما إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم ورجوا أن تكون عنده رخصة فحكم عليهما بالرجم ، فقال له النعمان بن أوفى وعديّ بن عمرو : جرت علينا يا محمد ليس عليهما الرجم ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «بيني وبينكم التوراة» قالوا : قد أنصفتنا قال : «فمن أعلمكم بالتوراة؟» قالوا : رجل يقال له عبد الله بن صوريا فأرسلوا إليه فدعا رسول الله
__________________
(١) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢ / ١٣ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٧ / ٢٧٢.