فإن قيل : قال تعالى : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) وأراد بالذي وعدنا الجنة فإذا كانت الجنة في السماء فكيف يكون عرضها ما ذكر؟ أجيب : بأنّ باب الجنة في السماء وعرضها كما أخبر تعالى : (أُعِدَّتْ) هيئت (لِلْمُتَّقِينَ) الله بعمل الطاعات وترك المعاصي وفي ذلك دليل على أنّ الجنة مخلوقة الآن وقيل : إنّ الجنة والنار يخلقان بعد قيام الساعة.
ثم وصف الله تعالى المتقين بصفات فقال :
(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) أي : في طاعة الله (فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) أي : في العسر واليسر أو الأحوال كلها ؛ لأنّ الإنسان لا يخلو عن مسرة أو مضرة أي : لا يخلون عن حال مّا بإنفاق ما قدروا عليه من قليل أو كثير كما يحكى عن بعض السلف أنه ربما تصدّق ببصلة ، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها تصدّقت بحبة عنب. فأول ما ذكر من أوصافهم الموجبة للجنة ذكر السخاء. وقد روي عنه صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «السخيّ قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيد عن النار والبخيل بعيد من الله قريب من النار ولجاهل سخي أحب إلى الله من العالم البخيل» (١)(وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) أي : الممسكين عليه الكافين عن إمضائه مع القدرة.
روي أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «من كظم غيظا وهو يقدر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء» (٢).
وروي : «من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا» (٣).
وروي : «ليس الشديد بالصرعة لكنه الذي يملك نفسه عند الغضب» (٤)(وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) أي : التاركين عقوبة من استحقوا مؤاخذته.
روي أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «ينادي مناد يوم القيامة أين الذين كانت أجورهم على الله فلا يقوم إلا من عفا» (٥) وعن ابن عيينة أنه رواه للرشيد وقد غضب على رجل فخلاه.
وروي أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «إنّ هؤلاء في أمّتي قليل إلا من عصم الله» (٦) وقد كانوا كثيرا في الأمم التي مضت وهذا الاستثناء يحتمل أن يكون منقطعا وهو ظاهر وأن يكون متصلا لما في القلة من معنى العدم كأنه قيل : إن هؤلاء في أمّتي لا يوجدون إلا من عصم الله فإنه يوجد في أمّتي وقوله تعالى : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) يجوز أن تكون اللام فيه للجنس فيتناول كل محسن ويدخل تحته هؤلاء المذكورون وأن تكون للعهد فتكون إشارة إلى هؤلاء وقوله تعالى :
(وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) أي : ذنبا قبيحا كالزنا (أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) أي : بما دون الزنا كالقبلة وقيل : الفاحشة ما يتعدّى وظلم النفس ما ليس كذلك (ذَكَرُوا اللهَ) أي : ذكروا وعيده أو
__________________
(١) أخرجه الترمذي في البر حديث ١٩٦١.
(٢) أخرجه أبو داود في الأدب حديث ٤٧٧٧ ، والترمذي في البر حديث ٢٠٢١ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٦٢٢٠.
(٣) أخرجه الترمذي حديث ٢٤٩٣ ، والسيوطي في الدر المنثور ٢ / ٧٣ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٥٨٢٢ ، ٥٨٣٣.
(٤) أخرجه البخاري في الأدب حديث ٦١١٤ ، ومسلم في البر حديث ٢٦٠٩.
(٥) أخرجه المتقي الهندي في كنز العمال ٧٠٠٨.
(٦) أخرجه ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ٣٢.