من المؤمنين وهو أنهم يبعثون آمنين يوم القيامة لا يكدّرون بخوف وقوع محذور ولا بحزن فوات محبوب وفي ذكر حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم بعث للباقين بعدهم على ازدياد الطاعة والجدّ في الجهاد والرغبة في نيل منازل الشهداء وإصابة فضلهم وإحماد لحال من يرى نفسه في خير فيتمنى مثله لإخوانه ؛ لأنّ الله تعالى مدحهم على ذلك.
(يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) لما بين تعالى أنهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم بين هنا أنهم يستبشرون لأنفسهم بما رزقوا من النعيم لذلك أعاد لفظ الاستبشار.
فإن قيل : أليس ذكر فرحهم بأحوال أنفسهم والفرح عين الاستبشار فلزم التكرار؟ أجيب : بأن الاستبشار هو الفرح التامّ فلا يلزم التكرار بأنّ المراد حصول الفرح بما حصل في الحال وحصول الاستبشار بما عرفوا أن النعمة العظيمة تحصل لهم في الآخرة والفرق بين النعمة والفضل أن النعمة هي الثواب والفضل هو التفضل الزائد.
فإن قيل : لم قال يستبشرون من غير عطف؟ أجيب : بأنه تأكيد للأوّل ؛ لأنه قصد بالنعمة والفضل بيان متعلق الاستبشار الأول (وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) لما ذكر إيصال الثواب العظيم إلى الشهداء بين أنّ ذلك ليس مخصوصا بهم بل كل مؤمن يستحق شيئا من الأجر والثواب ، فإنّ الله تعالى يوصل ثوابه إليه ولا يضيعه وقوله تعالى :
(الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) أي : دعاءه مبتدأ (مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) بأحد وخبر المبتدأ (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ) بطاعته (وَاتَّقَوْا) مخالفته (أَجْرٌ عَظِيمٌ) هو الجنة.
روي أنّ أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا وهموا بالرجوع ، فبلغ ذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأراد أن يرهبهم ويريهم من نفسه وأصحابه قوّة فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان وقال : «لا يخرجنّ معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس فخرج صلىاللهعليهوسلم مع جماعة حتى بلغوا حمراء الأسد» (١) وهي من المدينة على ثمانية أميال وكان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر.
روي أنه كان فيهم من يحمل صاحبه على عنقه ساعة ثم إنّ المحمول يحمل الحامل ساعة أخرى وذلك لكثرة الجراحات فيهم وكان فيهم من يتوكأ على صاحبه ساعة ويتوكأ عليه صاحبه ساعة ، فمرّ برسول الله صلىاللهعليهوسلم معبد الخزاعي بحمراء الأسد ، وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ومعبد يومئذ مشرك فقال : يا محمد والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أنّ الله قد أعفاك فيهم ، ثم خرج من عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء ، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فلما رأى أبو سفيان معبدا قال : ما وراءك يا معبد؟ قال : محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط قال : ويلك ما تقول؟ قال : والله ما أراك ترحل حتى ترى نواصي الخيل فألقى الله الرعب في قلوب المشركين فذهبوا فنزلت.
تنبيه : من في الذين أحسنوا منهم للتبيين مثلها في قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً) [الفتح ، ٢٩] لأنّ الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا لا بعضهم وقوله تعالى :
__________________
(١) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢ / ١٠٢.