وروي أنّ ضرسه أو نابه مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاث (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) أي : ليقاسوا شدّته ، وقيل : يخلق مكان ذلك الجلد جلد آخر والمعذب في الحقيقة على كل حال هي النفس العاصية القائمة بالبدن ؛ لأنها المدركة دونه (إِنَّ اللهَ كانَ) ولم يزل (عَزِيزاً) أي : لا يعجزه شيء (حَكِيماً) في خلقه يعاقب على وفق حكمته.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي : أقرّوا بالإيمان (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ) أي : بوعد لا خلف فيه ، وربما أفهم التنفيس لهم بالسين دون سوف كما في الكافرين أنهم أقصر الأمم مدّة أو أنهم أقصرهم أعمارا راحة لهم من دار الكدر إلى محل الصفاء وأنهم يدخلون الجنة قبل جميع الفرق الناجية من أهل الموقف (جَنَّاتٍ) أي : بساتين ووصفها بما يديم بهجتها ويعظم نضرتها وزهرتها فقال : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي : إنّ أرضها في غاية الري كل موضع صالح لأن يجري منه نهر.
ولما ذكر قيامها وما به دوامها أتبعه بما تهواه النفوس من استمرار الإقامة بها فقال (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) وإنما قدّم تعالى ذكر الكفار ووعيدهم ؛ على ذكر المؤمنين ووعدهم لأنّ الكلام فيهم وذكر المؤمنين بالعرض ، ولما وصف تعالى حسن الدار ذكر حسن الجار فقال تعالى : (لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) أي : من الحيض والقذر.
فإن قيل : المطرد في وصف جمع القلة لمن يعقل أن يكون بالألف والتاء فيقال مطهرات ، أجيب : بأنه عدل عن ذلك إلى الوحدة لإفهام أنهنّ لشدّة الموافقة في الطهر كذات واحدة (وَنُدْخِلُهُمْ) أي : فيها (ظِلًّا) عظيما وأكده تعالى بقوله : (ظَلِيلاً) أي : متصلا لا فرج فيه منبسطا لا ضيق معه دائما لا تصيبه الشمس يوما ما لا حرّ فيه ولا برد بل هو في غاية الاعتدال ، وهو ظل الجنة ، جعلنا الله تعالى ومن يحبنا ونحبه من أهلها السابقين مع النبيين والصدّيقين.
وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) خطاب يعم المكلفين ، والأمانات وإن نزلت يوم الفتح في عثمان بن طلحة بن عبد الدار لما أغلق باب الكعبة وصعد السطح فطلب رسول الله صلىاللهعليهوسلم المفتاح ليدخلها فأبى وقال : لو علمت أنه رسول لم أمنعه المفتاح فلوى عليّ رضي الله تعالى عنه يده وأخذ منه المفتاح وفتح الباب ، فدخل رسول الله صلىاللهعليهوسلم البيت وصلى فيه ركعتين ، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له بين السقاية والسدانة ، فأنزل الله هذه الآية ، فأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم عليا أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر ففعل ذلك وقال : هاك خالدة تالدة ، فعجب من ذلك وقال عثمان : أكرهت وأذيت ، ثم جئت ترفق؟ فقال : قد أنزل الله في شأنك قرآنا ، وقرأ عليه فقال عثمان : أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله فهبط جبريل وأخبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن السدانة تكون في أولاد عثمان أبدا فلما مات عثمان دفعه إلى أخيه شيبة ، فالمفتاح والسدانة في أيديهم إلى اليوم وإلى يوم القيامة ، فالآية ، وإن وردت في سبب خاص فعمومها معتبر بقرينة الجمع (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ) أي : قضيتم بين من ينفذ عليه أمركم أو يرضى بحكمكم (أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) أي : بالسواء بأن تأمروا من وجب عليه حق بأدائه إلى من هو له فإنّ ذلك من أعظم الصالحات الموجبة لحسن المقيل في الظل الظليل ، أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل